المكان قصر المؤتمرات بالعاصمة… التاريخ 21 نوفمبر 2014… الإطار ندوة صحفية يكشف خلالها رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات النتائج النهائية لأول انتخابات تشريعية بعد ملحمة 14 جانفي 2011 ويعلن فوز الجبهة الشعبية بـ15 مقعدا من مجموع 217 مقعدا في مجلس نواب الشعب…
بعد أيام قليلة وتحديدا في 2 ديسمبر أدّى النواب القسم وشرعوا في الاضطلاع بأعباء السلطة التشريعية… بمرور الوقت، تأكّد للقاصي والدّاني أن قوّتين متوازيتين تحت قبة البرلمان لا تلتقيان في الأطروحات والمواقف وفي التصويت كذلك لأنهما تحملان مشروعين مختلفين لتونس.. قوة معارضة تعبّر عن نواتها الصلبة وتقودها الجبهة الشعبية، وقوة موالاة تختلط فيها أوراق وأصوات الأغلبية الخارجة من صناديق الاقتراع والمشكّلة لمنظومة الحكم اليميني اليوم في إطار مغشوش ومهزوز من الوفاق والتوافق.
اليوم وبعد مرور سنتين، ونحن نتابع مناقشة ميزانية 2017 المثيرة للجدل، يجوز التقييم المرحلي والتساؤل عن أداء الجبهة الشعبية أو بالأحرى نوابها وكتلتها في مجلس نواب الشعب.
المنجز استثنائي بكل المقاييس، فقد أصبح لليسار التونسي نوابه في البرلمان. ليس ذلك فحسب، أصبح لهذا اليسار صوته وفعله ومقاومته وتكتيكه واستراتيجيته الموحّدة للدفاع عن الأرضية السياسية للجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة والتي تشكّلت بعد نكسة انتخابات 2011 وصعود جماعة الإسلام السياسي إلى الحكم. كما تعاظمت مسؤولية اليسار بعد انتخابات 2014 وحصول زواج المتعة بين الغريمين النهضة والنداء والتفافهما على شعارات الثورة المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
سياسيا أيضا، يحسب لنواب الجبهة الشعبية والكتلة ترجمة وحدة اليسار وبيان حقيقة أنّ هذه الوحدة ممكنة إذا توفرت الإرادة وصدقت العزائم رغم الإرث التاريخي ورغم “صمود” بعض أسباب الانقسام… وها هو اليسار يتقن فنّ تقاسم المسؤوليات والأدوار فهذا أحمد الصديق الناطق باسم حزب الطليعة رئيسا لكتلة الجبهة الشعبية، ونزار عمامي الأمين العام لرابطة اليسار العمالي ممثلها في مكتب المجلس، والجيلاني الهمامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال نائبا لرئيس لجنة تنظيم الإدارة و شؤون القوات الحاملة للسلاح، ومنجي الرحوي القيادي بالوطد الموحد رئيسا للجنة المالية، ومباركة البراهمي الرئيسة الشرفية للتيار الشعبي رئيسة للجنة شهداء الثورة وجرحاها وتنفيذ قانون العفو العام والعدالة الانتقالية… وفي الجلسات العامة والخاصة وفي اجتماعات اللجان والمنابر الإعلامية والساحات والشوارع يرتفع كل مرة صوت عمار عمروسية وشفيق العيادي وعبد المؤمن بالعانس وأيمن العلوي وزياد لخضر وسعاد الشفّي وفتحي الشامخي وطارق البراق وهيكل بن بلقاسم ومراد الحمايدي.
هم نواب الجبهة، نواب الشعب، نواب المعارضة وفي بعض الحالات نوابالأغلبية كما حصل في جلسة المصادقة على ميزانية رئاسة الحكومة يوم 21 نوفمبر الجاري حين تكلم شفيق العيادي نيابة عن قواعد الأغلبية الذين يبايعون النهضة والنداء ليلا ويولّون وجوههم بطحاء محمد علي في النهار وأيّده في ذلك نواب من هذه الأغلبية…!
على صعيد آخر، لا يمكن القفز على حقيقة أنّ النواب وكتلتهم يقومون بدور رئيسي في تعزيز وحدة الجبهة الشعبية والحفاظ على وجودها ولا نغالي حين نؤكد أنه في بعض المحطات والمنعرجات الدقيقة أمكن تجنيب الجبهة ما لا تحمد عقباه بفضل “تنازلات مؤلمة” لكنها راقية ومسؤولة بين “الرفاق” أمكن بفضلها البرهنة على أنّ الجبهة الشعبية كما أراد لها مؤسّسوها وفي مقدمتهم الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، ليست ملكا لمؤسسيها أو هيآتها القيادية أو حتى قواعدها، بل هي ملك لهذا الشعب والمطلوب أن ترتقي الجبهة بأدائها حتى تسند كتلتها وشعبها إذا كانت فعلا حاملة لمشروع حكم.
عامان فقط مرّا من عمر الفترة النيابية ومع ذلك يبدو نواب الجبهة الشعبية وكأنهم أصحاب تجربة كبيرة وعريقة في مجال العمل النيابي لكنهم يعجزون كل مرة للأسف في بيان واستثمار وتسويق انتصاراتهم – وهو أمر مشروع بمنطق السياسة – والأمثلة على ذلك كثيرة بدءًا بإسقاط بعض مشاريع القوانين من خلال الطعن في دستوريتها كما حصل مع قانون مجلس القضاء وقانون المالية 2015 أو من خلال تقديم المبادرات التشريعية كمشروع قانون التدقيق في الديون أو تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني أو مكافحة المخدرات…
هذا العمل الشاق لم يمنع نواب الجبهة الشعبية من الانتشار في الأرض تجسيدا لأحد شعاراتها المركزية، فلم يغيبوا عن الساحات والشوارع ولم يتأخروا في مساندة المحتجّين في ربوع الوطن والإسهام أيضا في الوفود التفاوضية مع ممثلي الحكومة كلما حصلت أزمة في إحدى الجهات أو القطاعات ونذكر على سبيل المثال هنا الوقوف إلى جانب نضالات المفروزين أمنيا من قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس وأهالي قرقنة وملف بتروفاك وأهالي واحات جمنة والعاملين في شركة العجلات المطاطية في الساحل وغيرها، إضافة إلى المشاركة في الوقفة الدورية الأسبوعية “شكون قتل بلعيد والبراهمي” كل أربعاء ولو بنسبة حضور رمزية لبعض النواب.
هذه النقاط المضيئة في عمل الجبهة الشعبية والتي يأتيها نوابها وكتلتها في مجلس نواب الشعب لا تحجب عنا بعض السلبيات التي يتوجّب أيضا التأشير عليها والوقوف عندها بالكثير من الحكمة والبحث عن أقوم المسالك لعلاجها.
لقد خلقت تجربة ولوج قيادات الصف الأول للجبهة الشعبية، أو لنقل بصراحة قيادات الصف الأول لمكوناتها الحزبية لمؤسسة البرلمان، حالة استنزاف وفراغ ميداني لم يعد خافيا على أحد. والخشية أن يكون ذلك تعبيرا عن فراغ، أو غياب لقيادات الصف الثاني والثالث.
إنّ هذا اليسار ممنوع اليوم من الفشل بعد أن صار له صوت ونواب في مجلس نواب الشعب وفي الأفق استحقاقات انتخابية بلدية وبعدها تشريعية ورئاسية لتجديد منظومة الحكم التي آن الأوان أن يقترب منها ويظفر بها اليسار.
مراد علالة