شريف الخرايفي // صوت الشعب العدد 222
شهدت العاصمة تونس منذ أيّام موجة احتجاجات متصاعدة ينظّمها عشرات من قدماء الاتحاد العامل لطلبة تونس واتّحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل، ضمن ما عرف بملفّ المفروزين. وبالتوازي مع ذلك، شهدت عدّة جهات تحرّكات احتجاجيّة تحت نفس العنوان: الفرز الأمني.
عودة إلى أصل الملف
تمّ منذ أكثر من سنة تشكيل لجنة وطنيّة، سمّيت ب “اللجنة الوطنية لإنصاف قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس واتّحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل” لتنظيم ملفّ هذه الفئة، وهم يعدّون بالمئات، من الذين تمّ فرزهم من العمل ومن الانتداب، بسبب أنشطتهم وانتماءاتهم النقابية والسياسيّة طيلة حكم الاستبداد والدكتاتوريّة. وكان طبيعي أنّه بعد الثورة أن يتمّ إنصاف أصحاب هذه القضيّة في إطار شكل من اشكال ردّ الاعتبار لضحايا القمع والاضطهاد والإقصاء. فتمّ بعث هذه اللّجنة (وقد سبقتها أقساط من نفس هذه الفئة، وتمّ إنصافها) لتنظيم الملفّ والتخاطب باسمهم لدى الحكومة والجهات مرجع النّظر.
وبعد عدّة تحرّكات في أغلب مدن البلاد، تزامنا مع إضراب جوع ملحمي، أقرّت الحكومة حقّ هؤلاء في العمل وإنصافهم، وأنّ ذلك لن يتجاوز أكثر من ستّة أشهر من تاريخ إمضاء هذا الاتفاق (بتاريخ 18 جانفي 2016)، على أن تستمع لجنة، بعثت للغرض، حالة بحالة للمفروزين، خلال هذه الفترة.
سارت الأمور مثلما تمّ الاتفاق وتوافد النشطاء الواردة أسماؤهم في هذه القائمة (774 عنصرا)، وبسطوا أمام لجنة متعدّدة الاختصاصات والقطاعات، همومهم ومشاكلهم ومعاناتهم ومسيرة الفرز والتنكيل التي عانوها طيلة سنوات، واستظهروا بما يؤكّد “هوياتهم” النقابية والنضالية (مسؤوليات نقابية، أحكام سجنية، أحكام بالطرد من الدراسة، محاضر أمنية مسرّبة، تقارير بوليسية، وشايات العمد والشعب الدستورية…) وظنّ أغلبهم، مثلما أكّدت الحكومة ومسؤوليها ولجنتها المكلّفة، أن الأمر لن يطول، وانّ “الخير في منعطف الطّريق”.
إلاّ بوادر انقلاب بدأت تظهر في الأفق، لم تتوضّح في البداية، إذ ظهر الأمر وكانّه تقصير عادي وطلب مشروع من قبل “رئيسة اللجنة” التي طلبت تعزيز لجنة الاستماع. وطال الأمر لأكثر من شهر، ولم يتمّ استئناف الجلسات إلاّ بعد احتجاجات ومواجهات وإصابات في صفوف “أصحاب الحقّ” ولُفِّقت لهم أحكام باطلة لأنهم “تصدّوا لعصا البوليس القمعيّة.
وأخيرا، تأكد الجميع، أنّ هؤلاء من طينة أخرى، وأنهم لا ينهزمون بمجرّد الترهيب والتخويف، وأن سنوات النضال والمواجهة مع الاستبداد لم تزدهم إلاّ عنادا وصبرا وتمسّكا بالحقّ، ولْتأتِ ضريبة ذلك.
انتهت المهلة ولكن…
انتهت جلسات الاستماع بعد أكثر من شهر من المهلة التي تمّ التّنصيص عليها في محضر اتفاق 18 جانفي، ولكن لا أحد باشر العمل، ولا حتّى بارقة أمل تظهر، بعد أن تغيّر الخطاب وتلوّن بمسحة “التشكّي” من الوضع وبضرورة تفهّم صعوبات الظّرف، ثمّ، دون سابق إنذار، ضرورة انتظار الحكومة الجديدة حتّى تتولّى الأمور وتستوي “على العرش”، فتتدبّر أمر المفروزين… ثمّ أنّه “لا وجود لانتدابات في الوظيفة العمومية للسنة القادمة”، هذا ما باحت به قريحة رئيس الحكومة الشاب (دون أن يعلم، وربّما يعلم، أنّ من بين المقصيّين من العمل في هذه القائمة، من هم أكثر منه سنّا !!)
بعد انتهاء مهلة الستة أشهر الملقاة أخلاقيا على عاتق الحكومة احترامها، بلغنا سداسيّة أخرى والملفّ يراوح مكانه. ويحرص من اللجنة المشرفة على الملفّ وبمعيّة مجموعة من النواب المساندين لهذه القضيّة تمّ فرض اجتماع عمل أواسط شهر أكتوبر مع السيّد مهدي بن غربية أفضى إلى تعهّده باستكمال كافّة المخرجات (من تقارير أمنيّة واجتماعيّة، حسم الشغورات التي سيتمّ توجيه المفروزين إليها مباشرة بعد المهلة (15 نوفمبر)، تخصيص الإمكانيات المالية لمن سينتصب للحساب الخاص…)، وجاء “اليوم الموعود”، ولكن، مرّة أخرى، التلكّؤ والتسويف كانا حاضرين.
من يدفع إلى توتير الأجواء؟
التعطيل المشبوه لحلّ هذا الملفّ، رغم شهادة الرأي العام، وخاصة الحقوقي منه والسياسي والنقابي، بأحقية هذه المجموعة بالانتداب الفوري، والإقدام بكلّ صلافة على مدّ اللجنة بقائمة لا تصل إلى خُمُس القائمة النهائيّة (ناهيك عن وجود قائمة تكميلية لم تباشر بعد جلسات الاستماع) بشكل استفزازي، وتمّ إقصاء وجوه بارزة في النضال النقابي والطلابي والاجتماعي، بل إنّ العديد منهم كانوا قادة نقابيين وعرفوا السّجون والسرية والملاحقات، ومنهم من تحصّل على العفو… ولكن كلّ ذلك لم يشفع لهم لدى “أصحاب القرار”، كلّ ذلك بالتوازي مع العودة إلى استعمال العنف الشديد والاعتداءات والرشّ بالغاز المسيل للدموع لمنع الاحتجاجات السّلميّة ومنع التظاهر للمطالبة بالحقوق وبالإنصاف، كلّ هذه الأساليب (المماطلة والقمع)، لا تترك كثيرا من التخمين: الحكومة تدفع في هذه الحالة المعطّلين عن العمل والمفروزين أمنيّا، لمزيد من الاحتقان وتعفين الأجواء لعودة استعمال القمع، هذا الأسلوب القديم – الجديد للتغطية على عجزها في معالجة ملفّ بهذه الإلحاحيّة وهذه المشروعيّة.
إلى حدّ هذه الساعة، يبدو أنّ الأمور تتّجه نحو مزيد من الاحتقان، خاصّة أمام المغالطة والمخاتلة التي تعتمدها الحكومة إزاء هذا الملفّ الحارق، وأمام الإصرار البطولي للمفروزين أمنيّا، والمفروزات منهم، اللاّتي أبدين بسالة وشجاعة لا تُضاهى في التصدّي لآلة القمع، وأمام التعبئة التي دعت إليها اللجنة المشرفة على الملف لشنّ كل الأشكال الاحتجاج والتشهير في كل الجهات، واستعداد الأمينين العامّين للمنظمتين للدخول في إضراب مفتوح عن الطّعام بداية من 5 ديسمبر في صورة مواصلة الانقلاب على الملف.