* ان التصويت آليا على ميزانية 2017 يذكّرنا بوصفة التصويت المنفعي في سباق الرئاسة الى قرطاج في 2014 وبيّنت الايام زيف هذه الوصفة وانتهاء صلاحيتها.
تسير الأمور داخل مجلس نواب الشعب هذه الأيام كما تشاء الأغلبية الحاكمة الحريصة على تمرير قانون المالية للعام 2017 كما اتفق في الآجال الدستورية المحدّدة بالعاشر من ديسمبر 2016، لكن بكثير من العناء أيضا بفضل اداء المجتمع المدني وفي مقدمته الاتحاد العام التونسي للشغل وكذلك المعارضة الوطنية وفي طليعتها الجبهة الشعبية بنوابها الخمسة عشر. هؤلاء النواب استبسلوا في الدفاع عن مواقفهم سواء في اللجان أو في الجلسات العامة التي أعطت للتونسيات والتونسيين صورة واضحة أكثر من أي وقت مضى عن الفجوة العميقة التي تفصل بين التزامات نائب الشعب الذي هو في نهاية المطاف رمز للسيادة الشعبية ومدافع عنها، وحسابات نائب الحزب الذي يغلّب مصالحه السياسية الضيقة ويتنكّر لناخبيه أولا وعموم شعبه ثانيا.
لقد انطلق ماراطون مناقشة مشروع ميزانية الدولة ومشروع قانون المالية لسنة 2017 منذ يوم 18 نوفمبر 2016 بخطاب رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يحسب له أنه نجح في توحيد الجميع ضدّه بما في ذلك أبناء ما تبقّى من حزبه، وجرت بعد ذلك تباعا مناقشة مشاريع مختلف الوزارات كل على حدة، ليبدأ النقاش حول مشروع الحكومة برمته الاربعاء 7 ديسمبر وينتهي مبدئيا بعد ثلاثة أيام بالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الانسان 10 ديسمبر 1948. وبما أن الحديث عن المعجزات لم يعد مستقيما فلا شيء ينبئ في ظل المعطيات الراهنة بالتصويت ضد المشروع وإسقاطه وهو ما نبّه اليه الكثيرون من البداية بالرجوع الى “موضة التوافق” السائدة وسلوك نواب الأغلبية تحت قبة البرلمان.
وسوف يسجل التاريخ مسألتين على غاية من الأهمية، أولهما عزوف نواب الشعب وتحديدا نواب الاغلبية عن الحضور وثانيهما جنوح من حضر من هذه الاغلبية للتصويت “الميكانيكي” أو “الآلي” ان صح القول بـ “نعم” بعد الاستبسال شفاهة في قول “لا”.
أما في ما يخص الانضباط والتواجد في الجلسات العامة، فان الأرقام الاولية والمعدّل العام يدور في فلك ثلثي النواب تقريبا، واكبوا النقاش والمصادقة على ميزانيات مختلف الوزرات. وكان العدد الاقصى مع وزارتي الداخلية والدفاع (أقل بقليل من 150 نائبا) في حين لم يتجاوز الحضور المائة نائب من جملة 2017 نائبا مع وزارة العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الانسان. وكما هو معلوم فقد اضطر رئيس المجلس الى ترحيل مناقشة وزارة الصناعة والتجارة من السبت الى الاثنين بسبب شغور القاعة وخلوها من النواب. وليس غريبا ان تمتلئ القاعة في اليوم الموعود لرفع اليد من جديد او الضغط على الزر للتصويت بـ “نعم” لميزانية حكومة الوحدة الوطنية 2017 كما أراد لها مهندسوها بعد التشاور والتفاوض والصراع خارج قبّة البرلمان بطبيعة الحال مع غير نواب الشعب من أطراف اجتماعية وهياكل مهنية، فعن اي سيادة شعبية يتحدّثون وعن أي سلطة تشريعية مستقلة يدافعون؟ !
ان سلوك واداء نواب الاغلبية او بالأحرى نواب الموالاة يطرح أكثر من سؤال وهو يثير في تقديرنا الشفقة على الكثيرين منهم ممن استبسل حتى أكثر من نواب المعارضة ونواب الجبهة الشعبية تحديدا في معارضة مشروع الحكومة ليفاجئنا في النهاية بالتصويت مع الحكومة ضد نفسه كما حصل على سبيل المثال في جلسة يوم الاثنين21 نوفمبر 2016 المخصّصة لمناقشة مشروع ميزانية رئاسة الحكومة، يومها عارض الجميع شفاهة المشروع الحكومي في حين جاء التصويت “الميكانيكي” ايجابيا ساحقا بـ 114 نعم مقابل 17 محتفظا و8 رافضا فقط.
ان مثل هذا الاداء يضرب في العمق مبدأ السيادة الشعبية والديمقراطية ويقوّض ايضا مبدأ استقلالية السلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، فالشعب التونسي انتخب ممثليه ليقوموا بالتشريع وصناعة القرار نيابة عنه في كنف الاستقلالية وبعيدا عن التوظيف والأجندات الخاصة وهو ما عبّر عنه نواب الموالاة بالفعل في مداخلاتهم قبل ان ينقلبوا على انفسهم وينتصروا للسلطة التنفيذية بالمصادقة على مشروعها المناقض لتوجهاتهم ومواقفهم وقناعاتهم المعلنة . وهنا يطرح السؤال على سبيل المثال حول ميزانية رئاسة الحكومة بالذات وإهمالها لهيئة الوقاية من التعذيب حسب قول نواب النهضة والنداء والذين صوّتوا “ميكانيكيا” لفائدتها فأين تلك المبرّرات وتلك “الاتهامات” وذاك الدفاع الحماسي عن الهيئة الدستورية المكلفة بالردع والوقاية من التعذيب في بلادنا؟..
ان التصويت آليا بهذه الشاكلة على مشروع ميزانية الدولة ومشروع قانون المالية لسنة 2017 يذكّرنا بوصفة التصويت المنفعي “الفوت اوتيل” في سباق الرئاسة الى قصر قرطاج في 2014، حينها تم ترهيب التونسيين وايهامهم بان طي صفحة حكم الترويكا يمر حتما عبر حصر المنافسة بين “المنقذ” مرشح نداء تونس والرئيس المنتهية ولايته، والأهم من ذلك اقصاء مرشح الجبهة الشعبية حمّة الهمامي الذي يمثّل بديلا حداثيا وديمقراطيا وتقدميا ونموذجا لـ”ولد الشعب”. وقد بيّنت الايام زيف هذه الوصفة وانتهاء صلاحيتها بحكم أنها أسفرت عن خليط حكم ضارّ جمع الاضداد ومكّن قيادة الترويكا من التوافق على تقاسم الحكم مع من نشأ على قاعدة نفيها.
وليست الخشية اليوم في تمرير قانون المالية فهو من تحصيل الحاصل بفضل التصويت “الميكانيكي” كما أسلفنا، لكن الخشية في القادم وما يخفيه من تداعيات فنفس المقدمات تؤدي الى نفس النتائج وحكام تونس الجدد لم يتخلّصوا بعد من منظومة الحكم القديم ومن خياراته ومن منوال التنمية الذي كان يسير عليه والشركاء الذين كان يعتمد عليهم وخصوصا المؤسسات المالية الدولية التي رسمت بعد خطوطها الحمر أمام ميزانية 2017 وما بعدها.
مراد علالة