جيلاني الهمامي
صادق مجلس النواب مساء يوم السبت 10 ديسمبر الجاري على قانون المالية لسنة 2017 الذي حظي بمباركة 122 نائبا ومعارضة 48 وتحفّظ نائبين. وبذلك أسدل الستار على ما يزيد عن الشهر من الجدل والصراع داخل أرجاء المجلس، ولكن أيضا من التجاذبات وحتى المواجهات في الساحة السياسية والاجتماعية وفي الشارع أحيانا.
قلما شغلت مسألة الميزانية الرأي العام في تونس مثلما شغلته هذه السنة لما تضمّنه مشروع قانون المالية من توجّهات وقرارات وإجراءات رأت فيه شرائح واسعة ومتنوّعة من الشّعب التونسي خطرا على مصالحها. فقد أعلن كلّ من المحامين والأطبّاء والصيادلة واتّحاد الفلاحين وأصحاب المؤسّسات واتحاد الشغل عن رفضهم للإجراءات التي كان مزمع تمريرها في هذا القانون ووصل الأمر بالمحامين إلى تنفيذ إضراب عام وأعلنت الهيئة الإدارية لاتّحاد الشغل الإضراب العام في الوظيفة العمومية لولا اتّفاق آخر اللّحظات. هذا ما يعني أن حكومة الوحدة الوطنية عانت ولا زالت، كما سنرى، من العزلة السّياسية والضغط الاجتماعي الذي أجبرها في الأخير عن التخلّي عن نسختها الأولى لقانون المالية.
الخيارات مملاة من الخارج
جاء قانون المالية هذه السّنة لتكريس مجموعة من “الإصلاحات”، كان الائتلاف الحاكم، ممثّلا في حكومة الصّيد، وافق على تنفيذها بتعليمات من صندوق النقد الدولي. فقد التزمت الحكومة في وثيقة اتّفاق القرض المبرم مع صندوق النقد الدولي شهر ماي الماضي بإدخال “إصلاحات” على أغلب المنظومات الاقتصادية والمالية والإدارية (الوظيفة العمومية والمنظومة المصرفية والصناديق الاجتماعية والمنشآت العمومية ومنظومة الجباية الخ …) والتزمت بالشّروع في تنفيذ ذلك انطلاقا من هذه السنة. وامتثالا منها لذلك جاء في قانون المالية تجميد الزيادات في الأجور وسدّ باب الانتدابات والتّرفيع في نسبة الأداء على القيمة المضافة لعدد من المواد من 6% إلى 12 و18% والتخفيض في الأداءات على الشركات التي تقبل بالدّخول لبورصة القيم المنقولة وبعث صندوق الودائع وإخضاع بعض المؤسّسات، مثل الوكالة التونسية لحماية المحيط، إلى الأداء وتنظيم نظام الجباية على المحامين والأطباء والصيادلة والمصحّات علاوة على الاستمرار في التّداين للتخفيض من نسبة عجز الميزانية. فكلّ هذه الإجراءات هي في الحقيقة مقدّمات لإجراء ما يسمّى بـ”الإصلاحات” المشار إليها. يعني أن خطّة التنمية للسّنة القادمة هي في الأصل موضوعة من حيث التصوّر والأهداف من قبل صندوق النقد الدولي لا بناء على الاحتياجات الحقيقيّة للبلاد والشّعب ووفق ما تستوجبه عملية الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد وما ترتّب عنها من تردّي للأوضاع الاجتماعية.
إجراءات ترقيعيّة وشكليّة
في غياب خطّة تنموية جديدة وإجراءات شجاعة لجأت الحكومة وكالعادة إلى جملة من القرارات الجبائية لتعبئة الموارد اللّازمة لتغطية مصاريف الأجور وتسديد الدّيون التي ستبلغ هذه السنة 8525 مليون دينار، أي ما يساوي 25% من الميزانية ونفقات التنمية التي ستظل مرّة أخرى في حدود 6 آلاف دينار أي ربع الميزانية فقط، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد الوطني إلى مجهود استثماري ضخم ليدشّن انطلاقة وانتعاشة حقيقية تخلق الثروة وتوفر مواطن الشغل. وكما سبق قوله اتّجهت هذه القرارات والإجراءات الجبائية إلى تكثيف الضغط الجبائي على الشّرائح المتوسّطة (مراجعة جدول الضريبة على دخل الموظفين) وعلى بعض المهن الحرّة التي، وللحقيقة لم تكن تخضع لمنظومة جبائية حقيقيّة. كما اتّجهت إلى تكثيف الضّغط الجبائي على الاستهلاك العام بإخضاع بعض السّلع والخدمات (مواد استهلاك ثانوية وأساسية مثل السّكر وخدمات إدارية مثل تسجيل العقود) إلى الضريبة على القيمة المضافة أو التّرفيع في نسبتها من 6% إلى 12% أو 18%. وفي المقابل من ذلك أبقت على نسبة الأداء على عديد المؤسّسات الكبرى في حدود 25% كما لو كانت مؤسّسات صغرى أو متوسطة (مثل المساحات التّجارية الكبرى وشركات توريد السّيارات الخ…) وأعطت للشّركات التي تلتحق بالبورصة امتياز التخفيض في الأداء على الأرباح إلى 15% بدلا من 20% رافضة حتى مقترح الجبهة المتمثّل في فرض شرط الترفيع في رأس المال لتوسيع الاستثمار وخلق مواطن شغل إضافية.
الحكومة تفشل في تمرير مشروعها
إنّ المتابع لمداولات مجلس النواب يلاحظ أن أغلب الإجراءات التي أرادت الحكومة تمريرها قد سقطت واستبدلت بأحكام أخرى تقدّمت بها الكتل النيابية. ناهيك وأنّ عدد الفصول الجديدة المقترحة من قبل النواب قد بلغ حوالي 70 فصلا، أي ما يضاهي عدد الفصول التي جاءت في مشروع الحكومة. فقد سقط الفصل الخاص بالأداء على توريد الأدوية تحت ضغط الصّيادلة وأجبرت الحكومة على الموافقة على نصف الزيادة في الأجور تحت تهديد الاتّحاد العام التونسي للشغل وتمّ التخفيف من الإجراءات الخاصّة بالأداء على مداخيل المحامين وبقي الفصل الخاص بالأطباء عامّا وقابلا للتأويل والّتصرف، وألغي الفصل الخاص بالأداء الجزافي على “الباعة المتجولين” أي على الناشطين في التجارة الموازية، كما ألغي الفصل الخاص بالتعريف بالإمضاء على عقود نقل الملكية والأصول التجارية من طرف قباض المالية. الفصل الوحيد الذي أحرزت فيه الحكومة “انتصارا” هو الفصل الخاصّ برفع السر البنكي نتيجة تشبّث نواب المعارضة خاصّة بهذا الإجراء.
لكن ولئن أجبرت الحكومة على كلّ هذه التراجعات فإنّ الأغلبية اليمينيّة في المجلس تمكّنت أيضا من منع مرور العديد من الفصول التي تقدّم بها نواب الجبهة الشعبية خاصة لفائدة المعوقين وعملة الفلاحة والأجراء الذين يقبلون بالعمل في المناطق الداخلية ولفائدة الجمعيّات النّاشطة في مجال النهوض بالأشخاص المعوقين والمسنّين أو الفصول التي اقترحوها لإضفاء الشّفافية في المعاملات المالية والتجارية (تسقيف الدفع نقدا بـ 5000 دينار فقط وإخضاع ما زاد على ذلك لوسيلة خلاص أخرى كالشيك الخ …) أو إجراء عقلة تحفّظية على أملاك المورّدين لبضائع غير مثبتة بوثائق قانونية واضحة الخ ….
ميزانية تعميق الأزمة
بعيدا عن التفاصيل الفنّية والقانونية فإنّ ما يمكن قوله حول ميزانية 2017 هي ميزانية تأبيد الأزمة وتعميقها ورهن الاقتصاد التونسي والتّمادي في التّداين وإهمال التّنمية والتساهل مع التّهريب والاقتصاد الموازي، وبالتالي مع الفساد، وإثقال كاهل الأجراء أكثر فأكثر لتزداد الفوارق بين الطبقات والجهات.
إنّ التمادي في هذه الاختيارات التي أغرقت الاقتصاد والبلاد وولّدت الانفجارات الاجتماعية من شأنه أن يهيّئ الظروف بلا شك إلى انفجارات جديدة أخطر وأشدّ نجد اليوم أكثر من مؤشّر عليها في ماتشهده عديد الجهات والفئات الاجتماعية من غضب واحتجاجات.