ثورة 17 ديسمبر التي عاشها شعبنا ومن أيّامها الأولى تلقّت الضربات الموجعة والقصف العشوائي من القريب قبل البعيد في محاولة بائسة لإطفاء جذوة النّار الحارقة، نار الثورة التي لا تموت ولا تؤثّر فيها محاولات التشويه: تارة عبر تسميتها بثورة الياسمين، برغم الدماء التي صبغت الأرض وعبّدت الطريق نحو النصر العظيم، وتارة أخرى عبر تحويل وجهة التواريخ واغتصابها عمدا بهدف تحويل النظر عن الدواخل نحو العاصمة بتسمية الثورة بتاريخ نصرها لا بتاريخ اندلاعها أو تاريخ سقوط أوّل شهيد فيها، وطورا عبر الازدراء والقذف بأبشع النعوت كوصفها بثورة “البرويطة”.
ولأنّ الشباب التونسي كان وما يزال المحرّك الرئيسي للمعركة، قائدها، مفجرّها، وقودها وخزّانها الذي لا ينضب كان على السّاسة أن يولوّا وجوههم شطر الشّباب ليتلمّسوا نار الثورة الموقدة برغم السّنوات التي مرّت بلا تشغيل ولا اهتمام بالجرحى والشهداء أو المعطّلين عن الأمل أو المفروزين أمنيا.
جريدة “صوت الشعب” تحاول من خلال هذا التّحقيق أن تلامس موقد النّار- بحضرة الشّباب الثائر-علّنا نتدثّر بسناها أو لعلّنا نأتي منها بقبس:
“من أجل أن يرافق تشاؤم العقل تفاؤل الإرادة يجب أن نقول أنّ حق الكلام والتنظّم مكاسب تاريخية تطلّب افتكاكها مئات الشهداء، وأن الديمقراطية بمعناها الليبيرالي مكسب تاريخي طال انتظاره وقابل للمراكمة. فمن دونه لا يمكن أن “تتفتّح ألف زهرة” وتتصارع المدارس من أجل صناعة مرجعية المواطنة المفقودة وإذكائها بمضامينها الاجتماعية.
إذا، ولأن التاريخ يصنع ضمن الصراع، والثورة صيرورة حركة وتاريخ، على قوى التغيير أن تواصل نضالها بلا هوادة من أجل إعادة الانتفاضة إلى خلفها الأمام؛ أي إلى ديسمبر في مستوى مضمونها الاجتماعي وأفقها التقدّمي الذي أذكته تجربة النضال وآلام الفشل. إن الأخطاء تقدّمية لو استوعبها الوعي في صيرورة التغيير الثوري”.
“لا أحد يمكنه أن يثبت أن الشعلة الأولى لتلك الانتفاضة سبقها وحدة وعمل منظّم، بمعنى سبقها عمل نخبوي موحّد على توحيد الشعب وتوسيع رقعة الوعي. إن ما حدث يومها ليس بشيء آخر سوى انفجار صمت وانفعال أرادت معه الكرامة أن تضع حدا: إمّا للذل أو للحياة. ما يعاب علينا هو أننا لم نتأمّل الحادثة بمعية ولم نفكر في إنقاذ الموقف بعمل منظّم تتصدّره المقاومة، وقد لا يعاب علينا لأنّا كنا مشتّتين هنا وهناك، وكنا انفعاليين أكثر مما يجب وكانت ذئاب الثورة تترصّدها هنا وهناك عبر عدسات عميلة لها، لا أحد كان يفكّر في النتيجة ولا أحد كان على أمل الهروب وإن كنّا كذلك، فلا أحد طرح السؤال عمّا بعد هذا الهروب. اليوم ونحن مرضى بضوضاء التعبير وصمت الفعل ماذا عسانا أن نفعل لنؤسّس لهروب جديد ونعني هروب الذئاب التي كانت تترصّد هروب الكلب؟ وأخيرا “إنّا باقون هنا وللحلم بقية” علّنا نضع محل الذئاب والكلاب أسدا”.
“ينتمي زمن الثّورات إلى الزّمن السّرديّ”، هذا ما صدح به “بول ريكور” حينما اعتبر أنّ الشّعوب، لا الجماهير، حينما تثور فإنّما تسعى إلى سرد قصص العذابات في ضوء الشّمس ولهيب النّار فتمتزج الأوجاع بالأحلام.. والأوهام فتتبدّى لنا الثّورة مسار مكابدة ومجاهدة بغية الاستئناف والانطلاق في الزّمان والمكان!
إلّا أنّ لحظة تكثيف السّرد تقتضي الخروج عن الزّمن البيروقراطيّ والثّيوقراطيّ لإعادة بناء الإنسان وذلك بهدف الإنجاز، وهنا مكمن الإشكال: وقعت فعاليّة الإنجاز في حالة عطالة تامّة فالتقى الزّمن الثّوري باللّامتوقّع وأصابته انتكاسة عطّلت ديمومته وسيطرته وسيادته!
ومن هذا المنطلق فإنّ العديد من التّصريحات والتّصريحات المضادّة التي تُلقى جزافا بين الفينة والأخرى لا تعكس إلاّ واقع الجمود والتّكلّس الذي انعكس سلبا على المجتمع التونسي باعتباره مجتمع ما بعد ثورة: غوغائيّة تتجلّى في تكريس الأيديولوجيات الزّاعمة بأنّ الديمقراطيّة متجسّدة وهو نكوص إلى الوراء يبشّر باحتضان ديكتاتوريّة ناشئة، فالديمقراطيّة كما يعلّمنا “دي توكفيل” تنتمي إلى المتغيّر وإلى الخيال على عكس واقعنا الذي سمته الجمود واللّاتغيّر. بالتّالي فإنّ “سكّان الغرف السياسيّة” بعبارة الصافي سعيد قد عمدوا إلى تغيير هيئاتهم والمحافظة على سياساتهم إثر قراءة للهزّات السياسيٌة أفضت إلى إقرار حقيقة أنّ قيادة القطيع إلى اليوتوبيات والأوهام يستلزم خطابات احتواء ومنطق وصاية جديد، محكومين في ذلك باستقطاباتهم في فترة ما قبل سقوط الدّيكتاتور وبعلاقاتهم المستحدثة”!
“في الأعلى، الجلّاد صار ضحية، تعليقات الناس، الضغط النفسي والإحساس بالذنب، وأحلام الليل الممتلئة بأشباه دراكولا… الضحيّة صارت جلادا… أقسم بالله أن الضحية صارت جلادا، صاروا يمتلكون السيارات بعد أن كانوا ينظفونها في ممرات لندن وشوارعها، ويحدّثونا في الإعلام كيف نذروا خصيّهم من التعذيب من أجل هذا اليوم وهذه الحرية، يوم يصير فيه جلادا و يكون حرّا في استعمال الكرابيج وقنابل الغاز والرشّ والكاتم الصوت ..
عموما لا شيء يوحي بالجديد، يمكن تلخيص كل هذا الشعور أو موازاته مع العشر أيام الموالية لهروب الجنرال، الكل في الشارع، والشارع في الكل، حينما أحسّ الفقير قبل الغنيّ والبعيد قبل الغريب أن هذه البلاد بلاده، وأن البديل والتغيير ممكن، وأن الوقت قد حان لنبني جنّة للجميع على هذه الأرض” ..
“ولا زلت حين أذهب لسيدي بوزيد، ألقي التحية على نفس الشرطي الذي كان منتصبا أمام المكتبة الوحيدة التي تبيع صحيفتي “الموقف” و“الوطن الجديد” لمعرفة المشترين، غزا الشيب شعره الآن وأصبح يحتسي “الفيلتر” بهدوء.
لازالت نفس العجوز تمسك بقدمي متسوّلة حين أمرّ تحت سور جامع الرحمة، باستثناء رفيق أو إثنين جديدين اقتعدا الأرض بجانبها.
لازالت نفس الوجوه المحترقة تحتسي القهوة المحترقة في نفس المقاهي: “سمرقند” لرجال التعليم والأساتذة، مقهى الاتحاد للنقابيين، وبقية المقاهي الأربع والعشرين للعاطلين عن العمل.
لازال نفس المطعم الصغير يبيع الفريكاسي أمام محطة سيارات الأجرة ومكان انتصاب البوعزيزي، الا ان ثمن الفريكاسي قد تضاعف، واجرة التاكسي كذلك.
17 ديسمبر… لازلت نفس الوجوه الغاضبة، المحتنقة قهرًا، تهتف حين تراني:”حمادي هنا! الليلة تبات كان بحذايا”!
“شوّهوها واعتبروها رمزا للتخريب البلاد والعباد، حملوها وزر عقود من الفساد واعتبروها فيلقا من الجراد رمى بسمومه سنابل قمحنا. كانت شامخة كنخيل الجنوب، تتلقى الطعنات في صمت وكان خشبها المهترئ يقاوم السوس الذي بداخله ويحاول الصمود أمام ضربات حطابي البلاد وجلاديها. من قطعوا جذوع الأشجار واستباحوا براءة الخضرة فيها وحاربوا يسامينها وحاولوا قطع رؤوسنا حين قلنا يسقط نظام السابع ونادينا بالثورة بكل المسميات: الجياع والمحرومين والمعطلين عن العمل والباحثين عن الحرية والكرامة.
نحن، من باركنا تلك “البرويطة” وقلنا المجد لذلك الخشب الشّاهد على المظالم وعلى التفقير وسرقة خيرات البلاد. نحن من سألنا على لسان الشهيد اليحياوي هل تونس سجن أم حديقة حيوانات؟ فكانت لنا الاجابة في الشوارع والساحات وتحت الغازات المسيلة للدموع وأمام وزارة الداخلية”.
كتب لجريدة “صوت الشعب” جمال قصودة
العدد 225// 22 ديسمبر 2016