بقلم جبران العكرمي مختص في تاريخ الفكر السياسي بجامعة دمشق
كانت النيّة إنتاج نظام ديكتاتوري بديل لنظام المخلوع وخاصة بعد أن عاد الغنوشي والمرزوقي من حفل “باكينجهام” حيث حضرا حفلا هناك دُعيا إليه. والحقيقة أنّ للزيارة أهداف أخرى غير تلك الظاهرة، حيث كُلِّف الرجلان بإعادة إنتاج منظومة بن علي. وهذه الزّيارة تشبه زيارة الأمير فيصل إلى مؤتمر الصّلح حيث كان الأمير مبهورا ومدهوشا مثلما كانا عليه المرزوقي والغنوشي وهما في حضرة الأمير “تشارلز”، كان الأمير “فيصل” تائها في متاهة قصر “فيرساي” وعظمته اللاّمتناهية وكان يجالس رئيس حكومة فرنسا القوي “كليمانصو” ليلا بحضور صبايا المجتمع المخملي الفرنسي، وكانا يحتسيان النبيذ الفرنسي المعتّق كما كتب ذلك أحد المؤرخين قائلا: هذا أقصى ما يتمنّاه أيّ بدويّ حتى لو كان في منزلة أمير وكان الأمير قد وقّع على كلّ الاتفاقيّات التي أُبرمت معه دون أن يراجعها أو يطّلع على فحواها ومحتواها على الرغم من أنها قد كتبت في نسخٍ منها بالعربية كما أنه وقَّع على اتفاقية تُسلَّم سوريا لفرنسا دون أن يكون له علم بذلك. “إيه”: ما أشبه اليوم بالبارحة وكأنّ شيئا لم يتغيّر منذ قرن، وحين بدأ الغزو الفرنسي على سوريا عن طريق قوّات “غورو” القادمة من لبنان ترك الأمير سوريا تواجه مصيرها وقفل عائدا إلى مكّة.
فدعوة المرزوقي والغنوشي إلى قصر “باكينجهام” كتلك الدّعوة التي وُجّهت إلى الأمير “فيصل”، وما دار في قصر “باكينجهام” لا يبعد كثيرا عمّا جرى ودار في قصر “فيرساي”.
وحينما عاد الرجلان إلى تونس تغيّرت النّبرة والأولويّات وإلاّ ما كان المرزوقي يهدّد خصومه بالمشانق في سابقة لم تعرفها البشرية، أمّا الغنوشي فعاد يعمل بصمت وبدأ بسياسة الضرب تارة على الحافر وتارة أخرى على النافر وبدأت البلاد تسير نحو المجهول وأغرقها في حُمّى التعصّب الديني حتى يوحي للمواطن بأنّ مشاكله الأساسية مشاكل دينية، ومن ثمّ يتمكّن من السلطة وإداراتها، وكان اعتقاده أنّ الأمر لن يستغرق معه أكثر من سنتين مثلما جرى هذا الأمر مع المخلوع حيث استغرق سنتين للاستيلاء على كلّ السلطة. وبدأت سياسة الغنوشي في التسويف والمماطلة وكان الرجل قبل الانتخابات قد تعهّد بأنّ الدستور سيكون جاهزا ولن يستغرق الأمر معه أكثر من سنة حيث أنه التزم التزاما أخلاقيّا حين ذاك، إلاّ أنّ هذه الزيارة جعلته يغيّر رأيه بالكامل حيث حصل على الضوء الأخضر في لندن للاستيلاء على السلطة وإجهاض الثورة، كما أوعزت أمريكا للإخوان في مصر بضرورة الإسراع بالاستيلاء على السلطة، وكان السيناريو هنا في تونس وهناك في مصر غاية في التّشابه وكأنّ التّعليمات تأتي من جهة واحدة لكلتا البلدين، فبدأت الرغبة هنا في الاستيلاء على القضاء وتطويعه وكانت نفس الرغبة هناك في مصر، وكانت النّيّة في الاستيلاء على الإعلام هنا وكانت الرغبة ذاتها هناك، انتهج الإخوان هنا وهناك نفس السياسة من أجل إجهاض الثورتين ونسي الإخوان في كلتا البلدين قضايا المواطن الاقتصادية والاجتماعية التي من أجلها انتخبا، وتبيّن للمواطن بأنّ رجال الدّين من الإخوان لا يتمتّعون بأيّ زهد بل همّهم الوحيد مصالحهم الحزبية الضّيّقة ومال الدّنيا وجاهها.
وبعد الاضطرابات الأمنيّة المتتالية وخاصة بعد اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي بدا واضحا بأنّ البلاد قد تنزلق في أيّ لحظة إلى الحرب الأهلية وسيكون الخاسر الأكبر أوروبا التي سينتقل إليها هذا الاضطراب وهذه الفوضى وتصبح تونس وقتها أكبر ممرّ للهجرة السّرّية، لذا تراجعت بريطانيا وأمريكا في دعمهما للنهضة في السيطرة على مفاصل الدولة، وكانت أمريكا في مصر قد أوعزت إلى الإخوان بالإسراع في السيطرة على مفاصل الدولة فاصطدموا بمعارضة شديدة من قبل الشعب والجيش، لذا لم تنجح أمريكا في مسعاها في كلتا البلدين وليس صحيحا أنّ النهضة اختارت التّوافق في تونس، فالحقيقة أنها أجبرت على التوافق وذلك أفضل لها من الخروج نهائيّا كما جرى لإخوان مصر.
أمّا في تونس فجاءت حكومة جمعة بعد شدٍّ ومدّ وبعد طول انتظار، غير أنها لم تحظ إلاّ بتوافق نسبي، فالأحزاب التي لم تساند جمعة وبقيت متحفّظة لأنها تخشى أن تضع بيضها كلّه في سلّة واحدة وفي حال انحرف جمعة بالمسار لا قدّر الله سوف تجد نفسها محرجة أمام أنصارها وأمام الشعب خاصة وأنّ عددا من وزرائها سليل حكومة كانت تقودها النهضة، والنهضة ما زالت تعمل بازدواجية الخطاب المعروفة عنها ولا يمكن لأحد أن يصدّق هذه الحكومة إلاّ بعد أن تطبّق خارطة الطريق كاملة دون نقصان وأن تكون هناك انتخابات مثل أو أفضل من سابقتها في 23 أكتوبر لأنّ هذا الشعب أثبت في 23 أكتوبر أنه أكثر نضجا ممّا توقّعت النّخبة السياسيّة، لذا فهو لن يسمح بأن تكون الانتخابات القادمة أقلّ ممّا عايشه ومارسه في الانتخابات السابقة، وفي حال ما كانت هناك رغبة لدى بعض الأطراف السياسية في استخدام العنف أو توجيه مسار الانتخابات حسب رغبتها فإنها سوف تكون خارج الخارطة السياسية وإلى الأبد، فالصراع اليوم بين أنصار الديمقراطية وأعداء الديمقراطية ومن يرفض قوانين اللعبة ويواجه خصومه بالعنف سيرفضه الشعب لا محالة.