إنّ المتتبع للمشهد الاعلامي المرئي في الأيام الأخيرة يلاحظ ظهور دفعة جديدة من البرامج “التَّرفيهية” و”الاجتماعية” في القنوات التلفزية الخاصة، ممّا يدفع إلى التساؤل حول طبيعتها وأهدافها. هل أنّ هذه الغزارة تأتي في إطار إثراء المادة الإعلامية وبهدف الإفادة؟ أي هل أنها انعكاس لواقع الناس وترجمة له عبر أساليب متنوعة وممتعة؟ أم أنها عكس ذلك ترتبط بأجندات سياسية غير بريئة تسوق بطرق مبتذلة وركيكة؟ جميع المعطيات ترجّح كفّة الفرضية الأخيرة كما سوف نرى.
لكن الشيء المحيّر في كلّ هذا هو ضحالة المادة الإعلامية المقدمة من طرف التلفزة العمومية المموّلة من دافعي الضرائب والتي من المفروض أن تتصدى لهذه الهجمة الشرسة والممنهجة ضد الفكر والإبداع والفن.
تحويل الاهتمامات
لا يخفى على أحد الدور المهم جدا الذي يضطلع به الإعلام في عصرنا الحاضر، حيث نستطيع القول إنه يحتل المرتبة الأولى من حيث التأثير على الرأي العام. كيف لا وهو الذي يمدّ الناس بالمعلومات ويكشف الحقائق ويساهم بقسط كبير في تثقيفه وتوجيه أفكاره وبالتالي بناء وعيه. هذا من حيث المبدأ لأنّ هذا الدور الريادي والبيداغوجي الذي يفترض أن تقوم به وسائل الإعلام قد لا يُحترم عندما تحيد هذه الأخيرة عن هذه الأهداف. وهذا بالضبط ما نشهده حاليا في الساحة الإعلامية التونسية خاصة في الوسائل المرئية الشيء الذي يضاعف من خطورة هذه الظاهرة الإعلامية وذلك باعتبار سهولة وقوة تأثير هذه الوسائل على المتلقّي. فخلال مدة قصيرة جدا لا تتجاوز الشهر، تمّ إنشاء العديد من البرامج الجديدة دفعة واحدة لدعم الترسانة القديمة المبتذلة والتي تحمل عناوين مختلفة لكن بمضامين متشابهة إن لم نقل متطابقة تهدف جميعها إلى ترسيخ اللامبالاة لدى المشاهدين تجاه الشأن العام ونشر ثقافة الميوعة.
ولتمرير هذا المشروع يلجأ أصحابه إلى استعمال صيغ التهكم والسخرية عبر المعنى النقيض فتصبح مثلا “أمور جدية” مادة للتهكم على كل ما هو جدي أي الواقع بأبعاده المختلفة خصوصا منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. و”كلام الناس” سخب ومجون وهراء يفقد اللغة عمقها الفكري والثقافي ويحولها إلى مجرد أداة مبتذلة تثير الغرائز وتسطّح المعاني وتعمّم التفاهة وتتفنن في الرداءة والسخافات وفي ابتكار أساليب عديدة ومتعددة لإبعاد الناس أكثر ما يمكن عن همومهم اليومية وإلهائهم بأشياء عقيمة ومقرفة تثير الاشمئزاز. و”حكايات تونسية” إطار لطرح مواضيع عامة نجدها في كافة المجتمعات الإنسانية وليست خاصة بتونس كما يدّعي باعث هذا البرنامج علاوة على أنها لا تمثّل أولوية ولا حتى هاجسا بالنسبة إلى التونسيين على الأقل في الظرف الحالي أين تنصبّ كلّ اهتماماتهم على الصعوبات المادية الحادة وغير المسبوقة التي يعانون منها جرّاء الاهتراء الفادح والمسترسل لقدرتهم الشرائية وعلى التهديدات الإرهابية المحدقة بهم خصوصا بعد أن تأكّدت نوايا الائتلاف اليميني الحاكم بإرجاع الإرهابيين إلى تونس بعدما قطع دابرهم في سوريا والعراق وذلك تنفيذا لخطة أسياده الإمبرياليين والصهاينة.
محور تركيز التونسيين في اللحظة الراهنة هو كل هذه الاشكاليات العميقة والمصيرية وليس “الخيانة الزوجية” أو “المنحرف النرجسي” هذا السلوك المرضي الذي لا يفقهه غير المختصين في علم النفس وبعض المهتمين بهذا الشأن من المثقفين والذي لا يدرك معانيه المعقدة والمركبة بكل تأكيد عامة الناس.
توصيات في مهبّ الرّيح
هذا بالإضافة إلى المسلسلات المدبلجة الهابطة والبرامج الأخرى القديمة منها والعائدة بعدما أجبرها 17 ديسمبر-14 جانفي على الرحيل مع صانعها مثل برنامج “الحق معاك” على اعتبار أنه يعدّ أحد الآليات الإعلامية التي كان يوظفها النظام السابق لتلميع صورته في مجال الحقوق والحريات وكذلك ليثني الناس عن المطالبة بها والنضال من أجلها في إطارها الصحيح. وها أنه يعود بنفس الاسم وبنفس الأسلوب وبنفس الأهداف المتمثلة في محاولة نسف المسار الثوري والعودة إلى المربع الأول. جميع هذه البرامج المحدثة والقديمة والتي بعثت من جديد في القنوات التلفزية الخاصة تجتمع حول مهمة واحدة: التمييع والتجهيل والتهميش والاغتراب لملايين المشاهدين. لكن أين التلفزة العمومية من كل هذا؟ لقد استبشرنا خيرا عندما انتظم في شهر ماي الفارط بمناسبة الاحتفال بالعيد الخمسين لتأسيس التلفزة التونسية “الملتقى الدراسي لإصلاح الإعلام العمومي- التلفزة التونسية نموذجا”. سبب استبشارنا هذا هو التوصيات التي وضعتها اللجنتين المكلفتين والتي تتلخّص في تحديد مفهوم المرفق العمومي في القطاع السمعي البصري على أساس أنه “مؤسسة تسدي خدمات إخبارية وثقافية وترفيهية لكامل فئات المجتمع وتموّل وتراقب من العموم في منأى عن أيّ تدخّل أو ضغط سياسي من الحكومة أو الأحزاب السياسية أو أيّ سلطة اقتصادية أو تجارية”. كما تؤكد هذه التوصيات على “ترسيخ المرفق العمومي بصفته مرجعا على مستوى نوعية وجودة البرامج والإعلام واحترام الأخلاقية المهنية”.
هذا على مستوى النص. لكن على أرض الواقع لا نلمس أثرا لكل هذه التوصيات لا من الناحية الكمية ولا على المستوى النوعي، حيث يغلب على برامج التلفزة الوطنية الطابع الديني والفلكلوري والمسلسلات والأفلام التي جلها معادة وهابطة تتناول مواضيع تافهة لا تلامس مشاغل الناس لا من قريب ولا من بعيد والأشرطة الوثائقية القديمة وخرافات عبد العزيز العروي و”ديوان الفن الشعبي” التي تسهم في تعميق الاغتراب والجمود الفكري من خلال التقاليد والعادات العقيمة والمتخلفة.
عدم كفاءة أم مؤامرة؟
هذا التصحّر الثقافي يدعمه تصحّر سياسي يبرز بشكل مفضوح عبر حذف جميع البرامج السياسية اليومية والأسبوعية التي كانت تعدّ من المكونات الأساسية للشبكة البرمجية للسنة الفارطة. الأدهى والأمر أنّ جلّ هذه البرامج المأخوذة من أرشيف التلفزة التونسية تبثّ تحت يافطة الاحتفال بخمسينية هذه المؤسسة العمومية. فعوض أن تكون هذه الذكرى مناسبة للتجديد من خلال تقديم باقات جديدة من البرامج النوعية وذلك تكريسا لتوصيات الملتقى الدراسي لإصلاح الإعلام العمومي خيّر المسؤولون اجترار الماضي بجميله وقبيحه على حد سواء تاركين الفرصة كاملة للقنوات الخاصة لتصول وتجول كما تشاء ومتخلّين بذلك طواعية عن مبدإ المنافسة الذي تنبني عليه المنظومة الإعلامية والذي يضمن جودتها ورقيّها.
في الحقيقة ليس هنالك تفسيرات عديدة لهذا التنازل المشبوه. فإمّا أن يكون بسبب عدم الكفاءة للإدارة الجديدة، وهنا نتساءل عن عدم تطبيق التوصية المتعلقة بخطة مدير عام لمؤسسة التلفزة التونسية والتي تنصّ على أنه “يتمّ الترشح لمنصب المدير العام على أساس معايير محددة ومدة معينة معلومة مسبقا”، بما أنّ المدير العام الحالي لم يتنافس مع أيّ مرشح آخر حول هذا المنصب بل وقع تعيينه من قبل الحكومة. وكما نعلم فإنّ التّعيين يكون على أساس الولاء السياسي وليس على قاعدة الكفاءة، ممّا يؤكّد أنّ عهد المرشح الواحد والتعيينات عبر المسالك غير الواضحة قد عاد. أمّا السبب الثاني الذي قد يفسر هذا السلوك المريب من طرف الإدارة الجديدة للتلفزة التونسية والذي هو في نهاية الأمر نتيجة مباشرة للسبب الأول فهو التنازل إراديا لفائدة القنوات التلفزية الخاصة وفسح المجال أمامها حتى تتمكن لوبيات المال والسياسة من السيطرة على المشهد الإعلامي والتأثير في الأذواق والعقول وتوجيه الرأي العام والتحكم فيه بكل أريحية. وبالتالي فإنه لم تعد هنالك حاجة إلى رفع شعار “إعلام العار” ولا لتركيز اعتصام أمام مقر التلفزة التونسية ولا للمطالبة ببيعها بما أنها أصبحت أداة طيّعة وخدومة للمنتقدين القدامى والجدد على حد سواء منذ أن بيعت في سوق النخاسة والعمالة أين تستباح القيم وحرمة الأوطان.
فوزي القصيبي
“صوت الشعب”: العدد 225// الحميس 22 ديسمبر 2016