عاشت المدن الساحلية لولاية المهدية الأيام الأخيرة على وقع فاجعة مركب الصيد “البركة” الذي غرق قُبالة شاطي مدينة الشابة نظرا لسوء الأحوال الجوية مخلّفا ضحايا ومفقودين وناجي وحيد هو ابن المجهّز البحري صاحب المركب.
ويُعتبر مركب البركة من أكبر المراكب في موانئ ولاية المهدية، ومن أفضلها من حيث التجهيزات والصلابة والإنتاج، وكان قد خرج من ميناء المهدية يوم 5 ديسمبر الفارط بعد أن تزوّد بالوقود ومدخّرات الرّحلة أو ما يُعبّر عنها البحّــارة بــ”السّبينسة” حاملا معه طاقما متكوّنا من الربان و13 بحري اختلفت أعمارهم شبابا وكهول.
العاصفة وآخر اتّصال
وبعد عشرة أيّــام من الإبحار والعمل تلقّى المركب النشرة اليومية للمعهد الوطني للرصد الجوي التي تفيد هبوب عاصفة كبيرة يوم الجمعة، ما دفع كل المراكب الى دخول الموانئ والاحتماء بها، وهو ما كان رُبّــان مركب “البركة” بصدد القيام به قبل حصول الفاجعة وقام بدوره بالاتّصال بعائلته وبصاحب المركب حوالي الساعة الواحدة ونصف من يوم الجمعة الفارط وأعلمه أنه قُبالة سواحل الشابة وهو يتّجه إلى ميناء المهدية وأكّد لصاحب المركب أنه سيكون داخل الميناء حوالي الساعة الرابعة من مساء نفس اليوم، ومنذ ذلك الاتصال انقطعت أخبار المركب والطاقم نهائيا.
انتظر صاحب المركب وصول مركبه حسب الموعد المحدّد دون جدوى وحاول الاتّصال مرارا بالطاقم ولكنه لم يتمكّن من ذلك، ولم يختلف حاله عن حال أفراد عائلات الطاقم الذين سُرعان ما تجمّعوا في الميناء متسائلين حول تأخّر “البركة”، فتم الاتّصال ببرج المراقبة بميناء المهدية وتمّ إعلامه بانقطاع الاتصال بالمركب، الذي تولّى بدوره توجيه نداءات إلى كلّ أبراج المراقبة وأشعر المنطقة البحرية للحرس الوطني بالوضعيّة.
انتظر الجميع في ميناء المهدية أملا في دخول المركب أو تلقّي اتصال من أحد أفراد الطاقم، خاصة وأن المراكب تغتنم الفرصة عادة لجمع أكبر كمية ممكنة من الأسماك لتُباع بثمن باهظ نظرا لنقص الكميات في السوق وراجت فرضية توجّه الربان إلى الجنوب قبالة السواحل الليبية وخليج قابس وبقي الأمل قائما باعتبار حجم المركب وتجهيزاته المتطورّة وكفاءة الطاقم الموجود على متنها، حتى اكتشاف أوّل جثّة.
خروج الجثّة الأولى
في اليوم الموالي خرجت مروحية تابعة للجيش الوطني بتمشيط المنطقة ولكنها لم تعثر على شيء حتّى تمّ اكتشاف الجثّة الأولى من قبل أحد المواطنين في شاطئ الخمارة الذي يبعد حوالي 20 كلم جنوب مدينة المهدية، وأعلم الحماية المدنية حوالي الساعة الثانية ونصف من يوم السبت بوجودها، وعند التحوّل على عين المكان اتضّح أنّها جثة أحد أفراد طاقم السفينة: البحار محمد المهدي بن أحمد الغول ويبلغ عمره 50 سنة، وكان ذلك بمثابة التّأكيد على غرق “البركة”.
إثر استخراج الجثة الأولى تجنّد مواطنو قرية الخمارة للبحث على طول الشاطئ الرملي بمساعدة أعوان الحرس الوطني والحماية المدنية والتحق بهم الأهالي من المدن والقرى المُجاورة، وظهر في البحر أحد البحارة وهو يقاوم الأمواج فتمّ إنقاذه وهو محمد يحيى صفر، وهو الناجي الوحيد من الحادثة حتى الآن.
الناجي الوحيد
وأكد محمد يحيى صفر البالغ من العمر 27 سنة، الذي تم نقله إلى المستشفى الجامعي الطاهر صفر بالمهدية، أنّه سبح لمدة تتجاوز الــ27 ساعة دون انقطاع حتى وصوله للشاطئ في طقس سيء جدا وتحت ظلام الليل الحالك وبرودة الطقس، وكان مُضطرا لنزع ملابسه حتى لا تُعيق حركته في السباحة، وأكّد أن بعض البحارة ماتوا إثر غرق المركب مباشرة وأنّ عددا آخر من الطاقم كانوا يسبحون معه في اتجاه الشاطئ قبل أن يفقدهم.
الجثث والمفقودين
وبعد ساعات من البحث في شاطئ الخمارة وخروج المواطنين بالمئات للبحث تم اكتشاف جثث البحارة محمد السوسي– خالد المورالي– حسين الزبيدي – حسن صفر – فتحي العماري – عبد المجيد حمودة، ويوم الثلاثاء الفارط تم اكتشاف جثة البحار أحمد الحفصي عالقة في بعض الشباك قرب ميناء سلقطة من معتمدية قصور الساف (10 كلم جنوب مدينة المهدية)، فيما بقي خمسة بحارة في عداد المفقودين إلى حدّ الآن وهم: ناصر الحاج سالم – حسام السبع – خيري الخياط – محمد صفر – محمد علي بن حبيب الغول.
الغرق
وحسب الحرس البحري وبعض البحارة، تعرّض “البلانصي” لموجتين متتاليتين من الجهة اليمنى أدت إلى انقلابه فورا، خاصة مع سرعة الرياح التي وصلت إلى حوالي 70 كلم في الساعة وقوة التيار البحري، ورغب رُبان السفينة في دخول ميناء الشابة ولكن عمق الميناء لا يُمكّنه من الوُلوج إليه باعتبار حجم المركب الكبير، وبالنظر لطول المسافة بين موقعه وميناء صفاقس (العميق) فضّل الدخول إلى المهدية الأقرب من موقعه رغم سوء الأحوال الجويّة.
احتجاج البحّارة
وأثناء الزيارة التي قام بها وزير الفلاحة سمير بالطيب لشاطئ الخمارة لتفقد عملية انتشال الجثث، احتج عدد من البحارة والمجهزين البحريين على الوسائل المُعتمدة في الإنقاض واعتبروها تقليدية ولا تفي بالغرض، كما نوّهوا للوضعية الاجتماعية لعائلات البحارة المفقودين في هذه الحادثة والحوادث السابقة وسياسة تعاطي الصناديق الاجتماعية مع حوادث الشغل البحرية، وطالبوا بتدخّل الحكومة والوزارة لمساعدة العائلات المنكوبة ولوضع استراتيجية واضحة للإنقاذ مُستقبلا.
حادثة “البركة” ليست حادثة الغرق الوحيدة في بلادنا فقد سبقتها مراكب أخرى، بحارة متوفون ومفقودون، لا تزال عائلاتهم تعيش وضعيات اجتماعية صعبة للغاية في ظلّ التعاطي السلبي للصناديق الاجتماعية مع البحّارة، وضعف طواقم الإنقاذ وانعدام التّجهيزات الضّرورية لذلك في بعض الأحيان.
نزار بن حسن