بقلم خليفة شوشان
لا شكّ أن حوار حمّة الاخير على قناة الحوار التونسي لن ينزل بردا وسلاما على العديد من أصدقائه فما بالك بخصومه السياسيين حتّى لا اقول اعدائه فالعداوة والحقد الاعمى صارت جزء من المزاج السياسي التونسي وأحد الدوافع الرئيسية لتحريك قطاعات واسعة من الأحزاب والأشخاص وانتاج موقفهم السياسي، فقد لان الخطاب الذي عبّر عنه حمّة هذه المرّة كان على درجة من الوضوح والصراحة والجرأة بلا مجاملات أو قيود، وقد تكون حيرة محاورته مريم بالقاضي وربّما “شرقتها على المباشر” قد مكنته من فسحة زمنية مناسبة ليعبّر عن مواقفه بطريقة مسترسلة دون مقاطعة وتشتيت أفكاره..
الكثير من التعليقات تناولت هذا الخطاب الذي جاء في وقته وبعد حملة من التشكيك ليست بالجديدة طالت الرجل لمجرّد حضوره لتقديم العزاء لعائلة الشهيد محمد الزواري في صفاقس تزامنا مع مسيرة وطنية ثلاثية الأبعاد والرؤى شاركت فيها العديد من القوى النقابية والسياسية والحقوقية لكن اصر البعض على رؤيتها فقط باعين نهضاوية، فكان اللقاء مناسبة استثمرها حمة كما يجب ليوجه جملة من الرسائل للداخل الجبهاوي وللخارج السياسي وضرورة للرأي العام والشعب التونسي الذي لا يغيب عن خطاب حمة والجبهة الشعبيّة.
إذا وبعيدا عن التفاصيل التي لا تسكنها إلا شياطين المشككين المتوثبين وما اكثرهم في خنادق مناصبة العداء لحمة والجبهة وهي تكاد تكون الحقيقة المشتركة الوحيدة بين مريدي الشيخين المصابون بوعكة ضمير وبتصلب فكري نتيجة ما آلت اليه نظريتهم في الانتخاب الموجه من التقاء الخطين المتوازيين في توافق مغشوش أنتج لنا حكومة “لا حول ولا قوة الا بالله” فإن أبرز ما استخلصته من حديث حمّة الهمامي البارحة تاكيده أن الجبهة الشعبيّة لا تزال قادرة على الرغم من تعقّد الوضع السياسي وتشابكه وطنيا واقليميا ودوليا على شق طريق سياسي مستقل وعقلاني وواثق مثلما طرحت على نفسها يوم اعلانها في ظل حالة الاستقطاب القاتلة والمدمرة السائدة اليوم على الساحة السياسية وطنيا وعربيا ودوليا والمعدمة للفعل والارادة السياسيّة. فعلى المستوى الوطني تسود حالة استقطاب حادة بين النهضة وملحقاتها والنداء ومشتقاته – رغم كلّ ما يبدو من توافقات مغشوشة وهشّة بينهما – حيث تخضع كل القضايا الوطنية بما فيها التحركات الاجتماعية والنقابية والتطبيع وعودة الارهابيين والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الاعلام لهذا الاستقطاب الثنائي وتقاس بمنطق من المستفيد منها النهضة أو النداء بقطع النظر عن مصلحة الوطن.
أما على المستوى الاقليمي فيتجسد الاستقطاب بوضعنا في كمّاشة الاختيار بين إحدى المشاريع المتنافسة على الوكالة في المنطقة سواء منها المشروع التركي العثماني أوالايراني الصفوي أوالصهيوني العنصري أو الوهابي الرجعي العدمي والتي وان اختلفت مداخلها فهي تتفق في الامعان بلا رحمة في استثمار حالة الفراغ العربي من أجل مزيد من التمدد خدمة لمصالحهما القومية الاستراتيجية على حساب الأمة العربية المنكوبة والوطن العربي المفكك وقد يحدث أن تلتقي رغم ما تعلنه من عداواة بينها لتقتسم الغنائم إذا لم يمكنها لحمنا المفروم تحت نيران مدافعها من حسم المعركة لاحداها والفوز بالغنيمة وهو ما وقع بعد “كارثة حلب”.. أو المتجسدة على مستوى ثنائيّة الاستقطاب الدولي في ظل دورة التنافس الجديدة بين أقطاب الصراع الرأسمالي المتوحش القديمة والجديدة الساعية إلى إعادة الانتشار في العالم تأمينا لمصالحها ومن أجل ضمان تكريس هيمنتها على بقيّة الشعوب سواء منها القطبيّة الأمريكية الاوروبية المترنحة والمأزومة أو القطبيّة الروسية الصينية الصاعدة والمتوثبة.
وقد برهن خطاب حمّة تصريحا او تلميحا عن قدرة الجبهة الشعبية على حلّ تطاسم هذه الإمية القدريّة وعن وضوح رؤيتها.
وهو الوضوح الذي لا شكّ يذكرنا بأهم السمات التي ميزت خطاب حركات التحرر الوطني العربية والعالم ثالثية عند نشأتها في بداية القرن الماضي وكم كانت الظروف مشابهة للظروف الحالية “صراعات النفوذ الدولية من أجل اعادة تقسيم العالم بين القوى الاستعمارية القديمة المتهالكة والجديدة الصاعدة” وذلك سواء من حيث اختيارها سياسة عدم الانحياز للمحاور المتنازعة آنذاك الكتلة الغربية والكتلة الشرقية وهو ما عبر عنه حمة الهمامي صراحة في معرض حديثه عن الصراع السوري باعلانه رفض التخندق في المحاور والانتصار للشعوب وحقها في تقرير مصيرها في وجه العدوان الخارجي المتمثل في التدخل الاجنبي في شؤونها الداخلية أو في وجه العدوان الداخلي المتمثل في متلازمة الاستبداد والفساد الذي يطرح نفسه العنوان الوحيد للوطنية في وجه الديمقراطية والتعددية الحزبية والعدالة الاجتماعية التي يصار إلى تحويلها إلى قرين للفوضى والعمالة تاديبا للشعوب التي ثارت على انظمتها طلبا لها. وضوح الرؤيا أيضا كان مكثفا في خطاب حمة الهمامي من خلال الموقف الواضح من القضية الفلسطينية بوصلة كل نضال حيث أعلن بكل شجاعة غابت عن المطبعين خدم الامبريالية والصهيونية يمينا دينيا أو حداثيا أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للامة العربية وكل الشعوب الحرة في العالم وأنه لا فرق عنده بين بنادق المقاومة بقطع النظر عن هوية من يحملها ما دامت مصوبة نحو العدو الصهيوني. انتهى الدرس واعتقد أن الرسائل وصلت إلى أصحابها..