جيلاني الهمامي
تصاعدت هذه الأيام وتيرة الجدل حول موضوع التوبة وبلغة أدق عودة ما يعرف بـ”الجهاديين” من سوريا والعراق. فتتالت تصريحات السياسيين (السبسي والغنوشي خاصة) والمنظمات (الاتحاد العام التونسي للشغل) وانتظمت الندوات (ندوة المرصد التونسي للأمن الشامل) وتنادت مكونات من المجتمع المدني للتحرك أمام مجلس نواب الشعب يوم السبت الماضي (24 ديسمبر 2016)، لا يبدو أنها ستكون الأخيرة من نوعها في ضوء ردود الأفعال المعبّر عنها اليوم في الساحة التونسية بخصوص هذا الموضوع.
وتباينت الآراء بين مؤيّد لعودة هؤلاء في إطار خطة ” إعادة إدماج ” واحتوائهم” و”مداواتهم نفسانيا” على حد تعبير زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي في تصريح لإذاعة صبرا اف. م. يوم الأحد 25 ديسمبر الجاري وبين رافض يصل فيه الرّفض إلى حد المطالبة بإسقاط الجنسية عنهم.
وقبل الدخول في نقاش الموقف من هذه المسألة والمبرّرات المقدّمة للموافقة على عودتهم والحجج المستعملة لرفضها يجدر بنا أوّلا أن نضع المسألة في إطارها التاريخي وسياقها السياسي على المستوى الإقليمي والدولي كما على المستوى المحلي.
السياق الدولي والإقليمي للمسألة
إن ما قد يبدو للبعض أنه مستجدّالآن في تونس ويثير كل هذا الجدل وأعني به موضوع “التوبة وعودة ما يسمى بالجهاديين” كان في الحقيقة ومنذ مدّة موضوع درس وتخطيط في بلدان أخرى وخاصة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. ذلك أن وكالة البوليس الأوروبية Europol كانت وضعت استراتيجية منذ شهر أوت 2015 للتعاطي مع ظاهرة “الجهاديين” وفي بؤر التوتر تحت عنوان “Point de Contact Voyageurs” تبنتها وكالة الاستعلامات الداخلية الأمريكية FBI وأمضت عليها في أفريل 2016. يأتي ذلك في إطار أجندات القوى العظمى في المنطقة العربية بعد الثورات التي عرفتها منذ مطلع العشرية الحالية. ووفق هذه الأجندات من المتوقّع أن تنتهي الحروب الأهلية التي تعرفها العراق وسوريا خاصة والتي خلّفت فيهما دمارا كاملا تقريبا. وبات بالتالي على القوى العظمى أن ترتّب مرحلة ما بعد هذه الحروب وأن تجد حلولا ومخارج لقوى الدمار التي بعثتها ورعتها وموّلتها وسلّحتها ووفّرت لها الإمدادات من كل نوع. ولذلك شرع الاتحاد الأوروبي والأمريكان منذ مدّة في إعداد خطّة تسوية الملفّين العراقي والسوري أو بالأحرى ملف “داعش” والمجموعات الإرهابية التي التحقت بها من كل البلدان. وتقتضي الخطة أن لا يقع التخلص نهائيا من إرهابيي “داعش” بقدر ما تقتضي إعادة استعمالهم في أماكن أخرى لخلق بؤر توتر جديدة للحفاظ على المنطقة في أتون الحروب والتخريب وبقائها تحت السيطرة والتخلف خدمة لمصالح القوى العظمى ومصالح الكيان الصهيوني.
في هذا الإطار بالذات شرع في إعداد تونس للقبول بعودة مجموعات الإرهابيين التونسيين الذين التحقوا بـ “داعش” وبدأت ماكينة الدعاية في طرح المسألة وجسّ نبض الشعب التونسي وتحسّس ردود أفعال قواه السياسية واختبار مدى قدرة التحالف السياسي الرجعي الحاكم على تمرير “الحربوشة”. وتتالت كما يعلم الجميع التصريحات لرموز الائتلاف (الباجي والغنوشي) وعقبتها سلسلة من ردود الأفعال حتى تحوّل الموضوع إلى جدل يشغل بال الرأي العام في تونس.
تونس مهدّدة
تقدم تونس على مرحلة صعبة ستواجه فيها ملفا أمنيا على درجة عالية من الخطورة وهو تحدّي جديد ينضاف للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادّة التي تمرّ بها وقد تجد نفسها أمام أحد احتمالين إمّا النهوض والخروج من منطقة العواصف أو السّقوط بين براثن الإرهاب والانهيار. ويبدو للأسف أن الاحتمال الثاني هو الأقرب بالنظر لكونها لا تتحكّم بملء إرادتها في ما يدبّر لها ولكامل المنطقة العربية ومنطقة شمال إفريقيا. وهي في أقلّ الأحوال مرشّحة لأن تلحقها شظايا المؤامرة التي تحاك ضدّ الجزائر الشقيقة التي يقع التخطيط لتحويلها إلى بؤرة توتر جديدة لمنعها من أن تتحوّل إلى قوة اقتصادية وسياسية إقليمية.
إن الضغط الممارسة على بلادنا من أجل احتضان بضعة آلاف عائدين من سوريا والعراق سينضافون إلى آلاف أخرى من الخلايا النائمة وممّن تم منعهم في وقت لاحق من التحوّل إلى سوريا سيجعلها في مستقبل غير بعيد في مواجهة جيش من المجرمين المدرّبين بأدوات أمنية وعسكرية محدودة ومنهكة وغير مجهّزة لمثل هذه المواجهات. ومن المؤكد أن تونس ستجد نفسها مجبرة على تحمّل تبعات قرارات واتفاقيات دولية ستعقدها القوى العظمى وبلدان الخليج وضمن هذه الضغوط سيقع إقناع السّلط التونسية بتنفيذ هذه القرارات مقابل فتات من المال تحت عنوان تأهيل المؤسّسات الأمنية والعسكرية وبناء سجون جديدة ومراكز فرز وإصلاح منظومة القضاء. فالمهمّ هو أن توافق على اقتبال هذه الجحافل من المجرمين و”إعادة إدماجهم” بعد مقاضاتهم.
والأكيد أنه مهما كانت المعالجات التي سينصح بها لتونس فإن المحصلة الأخيرة لعودة الإرهابيين ستكون وخيمة على وضعه السياسي والأمني ومستقبل شعبها إن عاجلا أم آجلا. ففي صورة عودة جماعية للإرهابيين ستكون تونس أمام ملف يشمل حوالي 10 ألاف عنصر متدرّب على فنون القتال واستعمال الأسلحة وتقنيات التّفجير منهم العائدون من بؤر التوتر ومنهم من تمّ منعه من السفر إلى سوريا ولا نعتقد البتة أنه بمجرد منعه تخلّى عن قناعاته التكفيرية الإرهابية ومنهم من سيتسلل إلى التراب الوطني خلسة أو سيعود تحت أغطية مدنية أخرى كطلبة وأصحاب شهادات. وفوق كل هذا لا ينبغي أن ننسى أن الأرقام الرسمية كانت تشير إلى أنّ عدد أتباع أنصار الشريعة في تونس سنة 2012 كان حوالي 27 ألف وهو رقم لا نعتقد أنه تناقص بمجرّد حضر هذا التنظيم.
صناعة الرأي العام
لقد شرعت ماكينة الدعاية المحلية في ترويض الرأي العام للقبول بهذه المؤامرة. فبعد تصريح الباجي في فرنسا برّر الغنوشي عودة الإرهابيين بقولته الشهيرة “اللحم إذا بار عليه بأماليه ” وبدأت جوقة “حقوق الانسان” إما عن حسن نية وببراءة ساذجة أو بدهاء ونفاق في الحديث عن ضرورة التعاطي معهم وفق مقتضيات قانون الإرهاب والتقيّد بالمواثيق الدولية والدستور. في الجهة المقابلة يتصاعد صوت الرفض لهذه المؤامرة وسارع الاتحاد العام التونسي للشغل إلى رفض عودة الإرهابيين ومشروع “التوبة” وعقبته بيانات وتصريحات لأحزاب سياسية ومكونات المجتمع المدني الذي نظّم طيف منه يوم السبت 24 ديسمبر الجاري وقفة احتجاجية أمام مجلس النواب. ودبّ في الأوساط الشعبية العامة قلق مازال يعتمل وهو مرشح لمزيد الانتشار ولا يستبعد أن يعبر عن نفسه قريبا بأشكال جماهيرية.
إن معركة حقيقية قادمة وسيكون مدارها إما تمرير المخطط الاستعماري الإرهابي أو إبطاله أو في أقل الأحوال فرض صيغة تفرغه من مراميه التدميرية وتضمن استقرار البلاد وأمن الشعب.
الحلّ بين مصلحة الوطن واحترام حقوق الانسان
تتركز النقاشات أكثر فأكثر على نقاش طبيعة الحل وإجراءاته لمواجهة عودة الإرهابيين. ولكن هذه النقاشات لم تفرز بعد اتّجاهين كبيرين واحد يرفض العودة دون أن يقدّم بدائل دقيقة تراعي مقتضيات حماية أمن البلاد وتوقيها من مخاطره ويجتمع حول هذا الموقف طيف واسع من القوى السياسية والمدنية والثاني تقوده حركة “النهضة” يركز أكثر على ضرورة احترام الدستور والمواثيق الدولية في الرد على شعار “إسقاط الجنسية” الذي لوّحت به بعض الأصوات ويشهر سلاح قانون الإرهاب على أنه الآلية المثلى الواجب تفعيلها ولسان حاله يقول – دون أن يصرح جهرا بذلك – مع قبول العودة.
والحقيقة أن المسألة على درجة من التعقيد بما يفسّر الغموض الذي ما زال يكتنف الموقف من هذه القضية الشائكة التي يختلط فيها الموقف المبدئي الصارم حيال التهديد الإرهابي المضمر لبلادنا وبين المحاذير الديمقراطية والقانونية التي لا مناص من مراعاتها.
لكن وقبل الخوض في الخطوط العريضة للحلّ لا بد من الاتفاق على جملة من المقدّمات الضرورية حتى يكون هذا الحلّ سليما وذا فعالية عند التطبيق.
أول هذه المقدمات هو لا بد من إعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا السبيل الوحيد الذي سيسمح لتونس – سلطة سياسية وأجهزة أمنية – من الحصول على المعطيات والبيانات حول العناصر التي حاربت إلى جانب “داعش” لتصنيفهم حسب درجات الخطورة والأدوار التي لعبوها في الحرب القذرة في سوريا. ومعلوم أنه لا يمكن التعويل في هذا المجال على تركيا التي تواطأت مع المجموعات الإرهابية وسهّلت لهم التسلّل إلى سوريا ووفّرت لهم الامدادات العسكرية والطبية وغيرها. كما لا يمكن التّعويل كثيرا على البلدان الأوروبية التي ولئن تتوفر على آليات مراقبة كثيرة ولكنها لا تملك تفاصيل المعطيات اللازمة للتعاطي مع جميع الحالات بالدقة اللازمة.
أما ثاني هذه المقدّمات فهو إعادة النظر في البعثة الديبلوماسية وملحقها الأمني في تركيا وتغييرها، بالنظر لما يروج حولها من غموض في جدّيتها في التعاطي مع حملات التسفير ومد السلط التونسية بالمستجدات والمعطيات. ومعلوم أيضا أن دور البعثة الديبلوماسية التونسية في تركيا سيكون محدّدا عند انطلاق حملة ترحيل الإرهابيين التونسيين المتواجدين بسوريا.
من ناحية ثالثة لا بد من إماطة اللثام وبتمام الوضوح عن ملابسات تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر وكشف خفاياها وتحديد الأطراف الضّالعة في ذلك من أحزاب وجمعيات وأيمّة ودعاة ولوبيات وشبكات تهريب لأنه من غير الممكن وضع استراتيجية وطنية لمواجهة الخطر القادم بالاشتراك مع من كان منخرطا في حملات التّسفير والتواطؤ مع الإرهاب مهما كانت الخطب التي يمكن أن يرفعها اليوم لمجاراة الموجة والتظاهر بحب الوطن الخ …
وفي هذا الإطار يمكن العودة وبجدّية لتفعيل المؤتمر الوطني لمقاومة الإرهاب الإطار الأمثل لوضع هذه الاستراتيجية شرط أن يقع الاعداد له بالدقّة وبالسرعة اللّازمتين كي لا يتحوّل إلى مهرجان فلكلوري للخطب والمزايدات السياسية.
وعلاوة على ذلك فإن ما تعانيه قوات الأمن الداخلي من مشاكل هيكلية وتنظيمية (التجاذبات الخ …) ومن قلّة الإمكانيات وما يحوم حول بعض أوساط في القضاء من شكوك وشبهات، تشكّل هي الأخرى من المواضيع التي لا بدّ من معالجتها دون انتظار كمقدّمة لضمان معالجة ناجعة لملف “العائدين”.
بعد توفير هذه الممهّدات لا بد من التصدي لفكرة سن قانون للتوبة والسّماح للذين قاتلوا في سوريا الى جانب التنظيمات الإرهابية مقابل إعلان توبتهم ووضعهم تحت المراقبة الأمنية للمخاطر التي ستنجرّ عن مثل هذا التمشي. فما بات معلوما علميا أن أقل من 20 % ممّن مرّوا بمثل هذه التجارب “تابوا” فعلا بمحض إرادتهم وجرّاء خيبتهم من خيار الإرهاب وهذا ما دلّلت عليه الكثير من الدراسات العلمية. كما أكّدت الدراسات أن مراقبة عناصر إرهابية تدرّبت على شتى أنواع الأسلحة وباتت تمتلك خبرات في التخفّي وصناعة الأسلحة والتفجير وغيرها من الأعمال تستوجب لكل عنصر ما بين 8 و10 أعوان أمن على غاية من التدريب ومسلّحة بأفضل وسائل العمل. وبناء على هذا فإن مراقبة ما يزيد عن 5000 عنصر إرهابي عائد أو من الخلايا النائمة المتواجدة على تراب الوطن سيتطلب تقريبا 40 ألف عون من خيرة ما لدينا في المؤسّسة الأمنية وهو يما يمثل كلفة باهظة من جهة، فضلا عن كونه أمرا غير متوفر الآن وهنا. لهذا كلّه فإن فكرة سن قانون التوبة هو مؤامرة معلومة النتائج بسورة مسبقة ولا بد من القضاء عليها في المهد.
ولكن وإذا كان لا بد من التعاطي مع العودة الجماعية المحتملة للإرهابيين من سوريا ما هي الحلول الممكنة إذن؟
بناء على ما سبق ذكره بخصوص عودة العلاقات بين تونس وسوريا يمكن العمل على عقد اتفاقية مع هذا البلد تقضي بمحاكمة كل من قام بعمل حربي وإرهابي على التراب السوري أمام المحاكم السورية وحتى إذا اقتضى الأمر تسليم كل من تسلّل خلسة إلى التراب التونسي للسلط السورية لمحاكمته. أمّا إذا رفضت سوريا ذلك لأي سبب من الأسباب – وهو أمر وارد – فيتعيّن حينئذ القيام بكل ما من شأنه في علاقة بالدول الراعية لتسوية الملف السوري لفرض تصوّر تونس في التعاطي مع تداعيات هذه التسوية من الناحية الأمنية، أي الاتفاق على معالجة ملموسة لملف العناصر التي ستفرّ من سوريا باتجاه بلدانها الأصلية أو ستحاول العودة عبر بلدان أخرى، وذلك بوضع منظومة أمنية مشتركة تقوم على توفير المعطيات لكل البلدان المعنية بما في ذلك تونس وإقامة مخيّمات مؤقتة لجمع المجموعات الإرهابية على الحدود التركية السورية والقيام بكل أعمال الفرز والتصنيف على عين المكان وتحديد وجهة كل عنصر منها.
وإلى جانب ذلك وفي إطار هذه الخطة الدولية لتحمل تداعيات انتهاء الحرب السورية لا بد من تحمّل المجموعة الدولية وخاصة البلدان التي لعبت دورا في إشعال فتيل الحرب هناك مسؤولية تمويل عملية معالجة ملف المجموعات الإرهابية بما في ذلك إقامة السجون الخاصة على غرار ما يجري بحثه الآن مع موريطانيا لإيواء “مقاتلي” أفغانستان وبؤر توتّر أخرى.
ومع كل ذلك فإن نقاشا عميقا ومتروّيا للجوانب القانونية بما في ذلك ما جاء في الدستور بخصوص الجنسيّة والتهجير واحترام حقوق الإنسان بات أمرا ملحّا ذلك أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي المختصة في المجال الأمني بما في ذلك البرلمان منكبّة منذ مدة على هذه القضايا وقطعت أشواطا في وضع الهيئات والآليات الأمنية على الحدود لمحاصرة الظاهرة الإرهابية وهي تطرح اليوم على طاولة النقاش جملة من المبادئ العامة التي كانت تعتبر بمثابة الحقائق الأبدية لإعادة النظر فيها حسب ما تقتضيه مبادئ الدفاع على الحرية والديمقراطية وأمن المواطنين. وبصرف النظر عن المقاصد الأخرى الخفيّة لهذه النقاشات والدراسات كالتّضييق على الحريات بتعلة مقاومة الإرهاب، فإن طرح هذه الجوانب في بلادنا أمر ضروري لإيجاد المخارج المبدئية والقانونية بين تجريم التّهجير والمساس بحق المواطنة والجنسية وبين ضمان الدولة لسلامة مواطنيها وأمنهم.