عرف التونسيون الهجرة بمعناها الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأخذت تتطور خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانطلاق البلدان الأوروبية في النهضة الصناعية والإعمار، فأخذت اليد العاملة تتدفّق عليها تدريجيا.
في تصنيف الهجرة والمهاجرون
منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي بدأت الهجرة تتغير تدريجيا، فمنها ما كان لغاية اقتصادية واجتماعية ومنها ما كان بعثات حكومية للدراسة، ومنها للتربص وكسب المهارات في عدة ميادين مثل الطب والتعليم والهندسة والإدارة …الخ. ومن بين اللّذين غادروا تونس بقصد الهجرة المؤقتة من تمكن من تأسيس أسرة امتدت الآن جذورها إلى الجيل الثالث على الأقل، فتكوّن بذلك جسم اجتماعي تونسي حامل لخصوصية اصطلح عليها “التونسيون بالخارج”. ورغم أن هذا التصنيف يعتبر مغايرا للتّقسيم الاجتماعي المعتمد لتحديد طبيعة المجتمع التونسي، إلا أنه تصنيف يرمز إلى شريحة تعيش خارج التراب التونسي وتقيم على أرض بلد آخر بصفة الإقامة، سواء ما كان منها بصفة قانونية أوغير قانونية.
أما تصنيفهم السوسيولوجي فهو خاضع لنفس المقاييس الموضوعية المعتمدة لدراسة مجموعة بشرية مشكّلة لكيان اجتماعي فمن بينهم الفقراء والعمال والعاطلين عن العمل ورجال أعمال وكوادر من مختلف الاختصاصات قادمين من مختلف الجهات التونسية ومن أجيال مختلفة.
التونسيّون المقيمون بالخارج
تجاوز عدد التونسيين المقيمين بالخارج 1223213 نسمة سنة 2012، أي خلال الفترة التي بدأت خلالها عدة بلدان عربية كانت مقصدا للتونسيين، والأخص ليبيا وسوريا واليمن، تشهد تحوّلات هامّة. دون اعتبار الآلاف من غير المسجّلين منهم نظرا لتواجدهم بطريقة غير قانونية إضافة إلى غياب الجيل الثالث من المهاجرين عن الإحصائيات وكذلك أبناء التونسيين المتزوجين من أجانب.ففي فرنسا تجاوز عدد التونسيين المقيمين 668668 ألف نسمة وبإيطاليا حوالي 189 ألف وبألمانيا 87 ألف كما بلغ عدد الطلبة التونسيين بفرنسا وفقا لوزارة التعليم العالي الفرنسية إلى 9000 طالب سنة 2010 دون احتساب المتربّصين أو الدارسين بمعاهد تابعة لوزارات أخرى وتمثل نسبة الشباب اقل من 18 سنة حوالي22,7 بالمائة من مجموع المهاجرين.أما بالدول العربية فيقيم حوالي 17 ألف بالسعودية و19 ألف بالإمارات العربية المتحدة.
وبصفة عامة يمثل التونسيون بالخارج نسبة تفوق 11 بالمائة من مجموع السكان ويرجّح أن تكون مساهمتهم المالية بحوالي 3539 مليون دينار سنة 2012.منهم من يحملون الجنسية المزدوجة إلا أن ولاءهم لتونس ولشعبها لا حدود له.كما تبلغ نسبة العمال 40,1 بالمائة وتجاوزت نسبة الكوادر 6,8 بالمائة و14,3 بالمائة من المتقاعدين. كما أن نسبة المرأة التونسية المهاجرة بلغت 36,5 من إجمالي المقيمين بالخارج .
في عهد بن علي: صورة التونسي بالخارج صورة مهينة
يلعب التونسيون بالخارج أدوارا هامة منها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعلمي والتكنولوجي لتواجد عدد هام من الخبرات الأكاديمية.وعرف التونسيون بالخارج في عهد بن علي تعامل مزدوج أثّر على الذهنية العامة للتونسيين فمن ناحية نظر لهم كبوق دعاية له وقد جند مؤسسات الدولة من إدارة وغيرها من المصالح الدبلوماسية لترويضهم خدمة لبرامجه فبعث بديوان التونسيين بالخارج سنة 1988 كإطار مسخر لإدخال العملة الصعبة على حساب حقوق المواطنين ومن هذه الزاوية أسس منظومة “مواطنونا بالخارج”تحت تصرّف شامل للتجمع والبوليس والعناصر المقربة منه أو العاملة في مجال الرشوة والفساد.
وأقر للتونسيين بالخارج التصويت في الانتخابات الرئاسية باعتبار انه المترشّح الوحيد على الدوام.ومثّل كذلك التونسيين بالخارج بمجلس المستشارين الصوري والذي ارتكز على ممثلي “التجمع” للسيطرة على اختياراتهم وتوجهاتهم ومراقبة ونهب أموالهم بذريعة الاستثمار وللترويج” للمعجزة الاقتصادية” التي ابتدعها، لذلك تركز اهتمام النظام السابق أساسا على رجال الأعمال والتجار وشجع على الانتهازية والرشوة والفساد المالي والإداري كمقياس أساسي للمعاملات فتحول المئات إلى أبواق دعاية له بالخارج حفاظا على مصالحهم وبحثا عن امتيازات على حساب التونسي المهاجر.لقد رسم لدى التونسي بالداخل صورة مهينة للتونسي بالخارج وتحوّل “مواطنونا بالخارج”إلى مجموعة اجتماعية منبوذة وصورتها الحقيقية مشوهة.
كما أبرم نظام بن علي اتفاقيات لمطاردة خصومه السّياسيين بالخارج وأطلق وسائل الإعلام في الداخل لهتك أعراضهم والنيل من كرامتهم وتشويههم ومن هذه الزاوية أصبحت صورة التونسي بالخارج سلبية ومرتبطة لدى بعض النخب بالعمالة للخارج.
أما في الخارج فإن الإدارة التونسية وغيرها من المصالح الدبلوماسية ظلّت حكرا على الحكم ففقد الآلاف من التونسيين حقوقهم المدنية والسياسية جرّاء ذلك.
لقد استمر حال التونسيين المحتاجين إلى مساندة من طرف بلدهم دون أمل خاصة منهم الآلاف الموزّعين على دول أوروبية وكندا وخاصة منهم من هم محرومين من الإقامة القانونية ووثائق إقامة في حين كان الفساد يعمّالمصالح التونسية بالخارج وتركزت مهماتها الأساسية في الدعاية لبن علي ونظامه وملاحقة المعارضين.من بين أهم نتائج ذلك أن الدولة التونسية تخلت عن دورها في الإحاطة ومتابعة عدة أجيال من أبناء الجالية التونسية بالخارج على كافة الأصعدة، كما تركت المجال مفتوح لقوى أخرى تقدمت على أساس أنها رافعة لشعار العروبة والإسلام ودافعة عن الهوية كمدخل إيديولوجي لاستقطاب عدد هام لغايات مختلفة.
وللتونسيين بالخارج أيضا نصيب في النضال ضدّ الدكتاتوريّة وفي الثورة
من الناحية النضالية فلقد لعب جزء هام من أبناء وطننا بالخارج في التّشهير والعمل على الإطاحة بالدكتاتورية فانتظموا في جمعيات ومنظمات وهيئات دفاع عن ضحايا القمع ودعموا كافة التحركات الاجتماعية والانتفاضات وعلى رأسها انتفاضة الحوض المنجمي، كما تحملوا مسؤولياتهم النضالية تجاه نضال الشعوب العربية وبالخصوص القضية الفلسطينية وناصروا القضايا العادلة في العالم فكانت حركة النضال التونسي من أبرز الحركات فاعلية في الخارج وأساسا بأوروبا وكثيرا ما شكلت عنصر متقدم في فضح الانتهاكات وتعرية حقيقة النظام السابق.
كما أن المكونات الحالية للجبهة الشعبية بالخارج كانوا من بين الديمقراطيين والتقدميين في النضال ضد الدكتاتورية منذ بداية التسعينات على أساس وطني وديمقراطي ومن أجل ثورة شعبية تونسية تطيح بالدكتاتورية ومن أجل مجلس تأسيسي يصوغ دستور تونس الجديدة ولقد ساهموا في تطوير حركة النضال خلال فترة طويلة للضغط على الدكتاتورية والتشهير بجرائمها ومساندة المعتقلين والملاحقين وإسناد الحركة الاجتماعية والسياسية، كما ناضلوا إلى جانب الجمعيات والمنظمات والأحزاب التونسية بالخارج من أجل تحقيق الديمقراطية وحماية كرامة المواطن التونسي وحقّه في العودة إلى بلده دون ملاحقة بوليسية.ومثلما ناضلوا خلال سنوات حكم بن علي فلقد كانوا من أبرز القوى السياسية والمدنية التي انخرطت في الثورة التونسية وفي هذا الإطار فإن التونسيين بالخارج بدورهم كانوا في الصفوف الأمامية لدعم الثورة وإسقاط بن علي ونظامه.
كما للثورة مطالب مباشرة في تونس، فإن لها مطالبها كذلك من قبل التونسيين المقيمين بالخارج من أجل إعادة تنظيم العلاقات بين التونسيّين وإعادة تنظيم الإدارة والمصالح المختلفة التي يمكنها أن تحقّق طموحات الثورة التونسيّة. وكما أن الثورة لم تحقّق أهدافها بالداخل فإن مطالب التونسيين بالخارج ظلت بدورها دون تحقيق نظرا لالتفاف منظومة 23 أكتوبر 2011 عليها ولا تزال مهمشة من قبل فريق الحكم إلى اليوم.
ـــ يتبع ـــ
لطفي الهمّامي