* ليست وحدها جماعة الإسلام السياسي التي تسير على هدى “الأمير” خصوصا والإمارة من صميم فكرها، سلوك جماعة التصويت المنفعي أيضا يسير على نفس القاعدة
* طبيعي أن يكون للجبهة خصومها لكن ليس من الطبيعي في شيء أن تنحدر أخلاق البعض إلى مستوى غير مسبوق في “الترهدين” والتشويه والاتّهامات الباطلة والأخبار الزائفة
تمرّ بلادنا هذه الأيام، ونحن نودّع عاما ونستقبل آخر، بمرحلة لا نغالي حين نقول أنها أدق وأخطر ما عشناه منذ ملحمة 14 جانفي 2011… أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، مشهد سياسي هشّ وائتلاف حاكم على كفّ عفريت كما يقال، خلايا إرهابية تتربّص بنا في الداخل، رصاص “أجنبي” يخترق السيّادة الوطنية وخطر داهم على البلاد تمثله جحافل من الإرهابيين في بؤر التوتر يُروّج لعودتها للأسف في هذا الظرف الدقيق بالذات…
في هذا الإطار، انضافت إلى واجهة المشهد العام مشكلات معقّدة وتفاقمت أخرى لتهدّد جميعها تجربة الانتقال الديمقراطي والمكاسب الهشّة التي تحقّقت على امتداد السنوات الست الماضية وفي مقدّمتها مكسب الحرية الذي انتزعه التونسيون ولا نخال بأية حال بأنه بمقدور أحد أن يقوّضه أو يحرم التونسيّين منه.
اليوم، وإلى جانب ظواهر سلبية مستفحلة كالفساد بحجميه الصغير والكبير كما يصنّفه مختصوه، والمال السياسي الذي يغذّي العفن في الشأن العام، والتشرذم الحزبي والسياحة الحزبية التي صارت “موضة”، والخطاب العنيف الذي يبلغ ذروته مع كيانات وجماعات تنشط في إطار الدولة المدنية ولا تعترف بها، تبرزممارسات سياسية لا تقلّ خطورة بل هي أخطر في تقديرنا لأنها ممارسات تنتعش من الحرية غير المسبوقة وهي متحلّلة من الضوابط الأخلاقية والقيم الإنسانية وتبيح جميع الطرق والوسائل لتحقيق الأهداف والمصالح الخاصة لأصحابها السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية.
والأخلاق هنا ليست بالمعنى الديني أو بالتعريف الأخلاقوي البسيط القائم على ثنائيّتي الخير والشر، الطيّب والشرير، الصّالح والطالح، النافع والضارّ، المطابق للعادات والتقاليد والمنافي لها، بل المقصود هو المعنى السياسي الذي يحيلنا إلى مجموعة القيم والمثل الموجّهة للسلوك البشري والتي يتوجّب أن تكون قائمة على المبادئ والقيم والعلاقات الإنسانية السّامية والنبيلة بعيدا عن العنف والكذب والخداع والمماطلة وترويج الأخبار الزائفة وتشويه الآخر بغية تحقيق الأهداف الخاصة جدّا على قاعدة أنّ”الغاية تبرّر الوسيلة”.
الغاية لا تبرّر الوسيلة حتى وإن نظّر لها البعض واتّكأ على “الأمير” وصار من أتباع مكيافيل في زمن مناهضة التّبعية، أو استشهد بتجارب تاريخية يخال أنها ناجحة لكنّها في الأصل جدّ فاشلة لأنها تجارب قامت على هتك الدّم والعرض والإساءة للكرامة المتأصّلة في بني البشر.
نقول هذا الكلام ونحن نتابع ما حلّ ببعض الكيانات السّياسية التي تقدّم الآن مشاهد غير صالحة للفرجة ولا تنفع الناس، قوامها التهجّم والعراك بين “أهلها” والاتّهام والتّشكيك وحتى تخوين بعضهم لبعض…
أمّا الفئة الثانية التي نزلت بالخطاب السياسي إلى الحضيض فهي تلك التي لم تخلع جلباب الدّين ولم تفصل الدعوي عن السياسي ولم تتب عن الكلام المزدوج أو كما قيل “التّرهدين” وها هي تحاول إيهام التونسيين بأن لا ناقة لها ولا جمل في ما حلّ بمئات وربما آلاف الشباب الذين اقتطعت لهم تذاكر الآخرة وقامت باستقطابهم وتجنيدهم وتسفيرهم إلى بؤر التوتر وخصوصا إلى سوريا لـ”الجهاد”لتنتصب مدافعة عن عودتهم إلى الديار وكأنّ شيئا لم يكن.
ليس ذلك فحسب، فحتّى التعاطي مع شهيد الثورة الفلسطينية محمد الزواري لم يخرج عن دائرة المزدوج و”الزئبقية”، فالجماعة تنفي في نفس الوقت انتماءه أو لنقل علاقته ولو العقائدية بها و”تركب” على مواكب العزاء ومسيرات التضامن وفوق كل ذلك تفاجئنا بأنه ليست لها مشكلة مع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني بعد أن أسقطت هذا المبدأ من الدستور!
واللاّفت أنها ليست وحدها جماعة الإسلام السياسي التي تسير على هدى “الأمير” خصوصا والإمارة من صميم فكرها، سلوك جماعة “التصويت المنفعي” أيضا يسير على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة.. وغايتهم اليوم ليست البرهنة للتونسيين على أنهم جديرون بالاضطلاع بأعباء الحكم أو الاعتذار منهم لأنهم خذلوهم وحكموا وتوافقوا مع من تأسّسوا واتفقوا على معاداتهم، بل الغاية الإساءة لفاعلين سياسيين آخرينيجوز الاختلاف في تقييم وجاهة أطروحاتهم وأدائهم ودورهم السابق والحالي والمستقبلي، لكن لا يمكن المزايدة عليهم في سلوكهم ووضوحهم السياسي وفي تضحياتهم ومبدئيتهم وإنسانيتهم.
هؤلاء الفاعلين بالذات يدركون جيّدا أن السياسة هي فن الممكن بقدر الإيمان بأهمية القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والنزاهة والشجاعة في العمل السياسي، وعلى هذا الأساس يختارون الوسائل المفضية إلى أهدافهم السياسية ولو كان الثمن مكلفا مع هذا الاختيار، وليتذكر الجميع من عارض بورقيبة ومن رفض إعطاء الصك الأبيض لبن علي ومن عارض الترويكا وأعلن مواجهة الثورة المضادة بكل أشكالها وتمظهراتها؟ .
هو اليسار، وتحديدا طيف لا يستهان به من اليسار بقادته وشهدائه وأشباله ونسائه، يدفع اليوم ثمن بداية نضجه وإقدامه على توحيد قواه في إطار جبهة شعبية مطالبة بالنجاح في معادلة المعارضة والحكم أيضا.
إنه من الطبيعي أن يكون للجبهة الشعبية خصومها، لكن ليس من الطبيعي في شيء أن تنحدر أخلاق بعض المحسوبين والعاملين للأسف في الحقل السياسي والنشطاء المهتمين بالشأن العام إلى مستوى غير مسبوق في “التّرهدين” والتشويه والاتهامات الباطلة والأخبار الزائفة كالترويج في كل مرة لفزاعة “18 أكتوبر”والتطبيع مع الإسلام السياسي، والأخطر من ذلك الإيهام بوجود صراع بين قوتين أساسيتين داخل الجبهة، هما حزب العمال والوطد الموحد، مرّة على أساس العلاقة بقرطاج والقصبة ومرّة على أساس التعامل مع قضيّتي الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، ومرة أيضا على أساس أداء الناطق الرسمي باسم الجبهة ومستقبل الجبهة الذي يبدو أنه بدأ بالفعل يؤرق البعض.
مراد علالة