أسفرت معركة حلب عن مغادرة الجماعات التكفيرية المدينة ومعهم عائلاتهم. واعتبر قائد العمليات الميدانية المدينة خالية من المسلّحين وبدأت عمليات التمشيط وإزالة الألغام للتّسريع بعودة السكان الأصليّين للمدينة، التي بدت مخرّبة وشبه بالثكنة العملاقة التي تأوي الأطنان من الذخائر والأسلحة المتنوّعة والحديثة التي تزوّد بها الإرهابيون للسيطرة على حلب والبقاء فيها.
أكثر من ثلاثين ألفا من عائلات المسلّحين كانوا على عين المكان في ثاني أكبر المدن السورية ليس للنزهة والتمتّع بخيرات سوريا ولكن من أجل الاستيطان نهائيا على شاكلة العصابات الصّهيونية التي احتلت فلسطين في 1948. خروج العصابات التكفيرية تزامن مع عمليات حرق وتخريب ونهب وقتل للأسرى في تعدّي واضح على القوانين الدولية والأعراف والأخلاق.
انتصار ثمين وتداعيات كبيرة
الانتصار السريع للجيش السوري والقوّات الرديفة في حلب وانهيارات المسلّحين فاجأت الداعمين من القوى الاستعمارية وعملائها الإقليميّين الذين ردّوا الفعل بطرح مسألة جرائم النظام السوري أمام الهيئات الدولية ليس احتراما أو دفاعا عن حقوق الإنسان ولكن للانتقام من النظام السوري المنتصر في المعركة وبتجديد العقوبات ضدّ روسيا لأنها ساعدت على هزم مخطّطاتهم في سوريا وفي المنطقة عموما واستغلال هذه المسألة كورقة ضغط في المفاوضات اللّاحقة.
هزيمة المعسكر الداعم للجماعات التكفيرية كانت ثقيلة وستكون لها ارتدادات سياسية وجيو-استراتيجية في المنطقة. وأولى هذه التداعيات تراجع النظام التركي عن المطالبة برحيل رأس النظام السوري والإعلان عن مقاومة الإرهاب كأولوية وعقد اللقاء الثلاثي الشهير في موسكو (روسيا تركيا إيران) للإعداد لمحادثات الآستانة في كازاخستان بدلا عن جنيف.وهي حركة يُراد منها تجاوز الأطراف التقليدية المتدخّلة في الملف السوري الإقليمية منها (السعودية قطر) والدولية (دول الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة…) أو على الأقل تهميش دور البعض منها ووضع البعض الآخر أمام الأمر الواقع.
تحرير حلب أربك أيضا الكيان الصهيوني الذي ازدادت مخاوفه من تنامي قدرات وخبرات الجيش السّوري ومسلحي حزب الله وما يمثّله ذلك من خطر على وجوده واستقراره على أرض فلسطين.
النظام المصري اقترب أكثر من سوريا وأصبح قادرا على المجاهرة بمواقف داعمة لوحدتها الترابية وللحلّ السياسي وقدّم الخبراء العسكريين وتخلّص من الارتهان للنظام السعودي في محاولة منه للعودة للعب دوره التقليدي في المنطقة من بوّابة الانفتاح على القوى المنتصرة في الحرب السورية (روسيا إيران سوريا) وربّما الاستعانة بها للقضاء على التهديدات الإرهابية على بلاده.
أي أفق للحرب على سوريا
الأكيد أن الجيش السوري وحلفاءه في ظروف أفضل اليوم بعد تحرير حلب. عسكريا للتفرّغ أكثر لدحر المنظّمات المصنفة أمميا إرهابية (داعش والنصرة) خاصة بعد حصر تواجدها في بعض المحافظات دون سواها (الرقة -تدمر -الباب بالنسبة لداعش وإدلب بالنسبة للنصرة) وسياسيا للتفاوض مع المعارضة السورية من موقع المسيطر على أغلب الجغرافيا السورية وفي ظرف توسّعت فيه المصالحات لتشمل أكثر من بلدة وقرية حيث تسلّم بعض المجموعات السلاح مقابل تسوية أوضاعها واستقرارها وإسقاط التتبعات ضدها.
وما سيساعد النظام السوري على فرض خياراته وشروطه في هذه المفاوضات المقبلة هو أن المعارضة لا تملك حاضنة اجتماعية واسعة في الداخل السوري ولم تعد لها أوراق بالإمكان استعمالها عدا الضغوطات والتهديدات الخارجية.
الأكراد من جهتهم لم يعد لهم السّند الضروري لطرح مسألة الفيدرالية بعد تخلّي الولايات المتحدة عنهم وإصرار النظام التركي على رفض أي كيان كردي على حدوده حتى لا تنتشر العدوى وتفتح الآفاق أمام أكراد تركيا ليشكّلوا دويلتهم.
والمتابع للشأن السوري يلاحظ أيضا تشكّل معارضة مدنية ديمقراطية في الداخل السوري لم يسبق لها حمل السلاح ولم تلطّخ أياديها بدماء السوريين وقد يكون لها حضور هام في الخارطة السياسية القادمة لارتباطاتها المباشرة بالسّوريين وتقديمها الخدمات الغذائية والصحّية والتعليمية وغيرها طيلة الأزمة.
ولابد أن نأخذ في الحسبان أيضا أن الشعب السوري ذاق ذرعا بهذه الحرب المدمّرة وأصبح ينتظر الاستقرار والعيش بسلام…في انتظار ما سيكون عليه موقف الولايات المتحدة بقيادة ترامب الذي يبدو أنه سيبحث أكثر عن تفاهمات مع الروس من أجل تقاسم مناطق السيطرة والحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكلّ طرف.
التداعيات على تونس
هزيمة الإرهاب التكفيري في حلب ستكون لها أيضا تداعيات على بلادنا التي تسجّل أعلى نسبة من الإرهابيين في سوريا بعد الصين، والذين ستضطرهم هزيمتهم المدوّية إلى محاولة العودة إلى تونس سواء بطرق شرعية أو عبر التسلّل. وقد أعلنت وزارة الداخلية أن 800 منهم عادوا بعدُ، في انتظار البقية.
هذا الموضوع خلّف في الأوساط السياسية والمدنية جدلا واختلافات حول سبل معالجته بين ائتلاف حاكم يرغب في إطار صفقة اقتصادية سياسية استيعاب هؤلاء باعتبارهم “تونسيّين لا يمنعهم الدستور من حق العودة” ومقاضاتهم وفق قانون الإرهاب، وبين معارضة ومجتمع مدني في مقدّمته الجبهة الشعبية، تنظر للقضية بالأساس من زاوية سياسية وتؤكّد على خطر العائدين على استقرار البلاد وأمنها وعلى مؤسساتها خاصة وأنهم من أكثر الجماعات خبرة في المجال العسكري وتندّد بالصفقة المالية والمساعدات والقروض والاستثمارات المشروطة التي أطلقتها وتطلقها الدول الاستعمارية والسعودية وقطر الحاضرتان بقوة في مؤتمر الاستثمار المهزلة.
الدول الاستعمارية من جهتها -التي لا ترغب في اجتثاث الإرهاب جذريا بل تعمل على إعادة نشره -تخطّط على الأرجح لتوطين الجماعات التكفيرية قريبا من الحدود الجزائرية حتى تشكّل قنابل موقوتة يمكن اللجوء إليها في الوقت المناسب لضرب الجزائر الشّقيقة التي ظلّت منذ استقلالها عصيّة على الترويض.
إن زرع هذه الجماعات داخل الجزائر لتدميرها وإخضاعها من شأنه التأثير مباشرة على تونس التي ستسارع المجموعات الإسلامية التي تعتبر نفسها اليوم حداثية ورافضة للإرهاب إلى تشكيل جبهتها واستيعاب “المجاهدين العائدين” ضمنها كجناح عسكري مسلح للسيطرة على البلاد وحكمها “وفق الشريعة الإسلامية” وتدمير الدولة المدنية الديمقراطية التي مات من أجلها آلاف الشهداء منذ الاستعمار المباشر إلى اليوم.
هزيمة الإرهاب التكفيري في حلب لن تتحوّل إلى نصر له في تونس، مهما كانت حسابات الائتلاف الرجعي الحاكم بوجهيه الحداثي المزعوم والظلامي المتجلبب بجلباب الحداثة، لأن الشعب التونسي أقوى من المؤامرات الخسيسة التي تستهدف كيانه ومجمل المكتسبات التي حقّقها بعد تضحيات جسام، ولأن الجبهة الشعبية ومعها المجتمع المدني الديمقراطي حاضرون سياسيا وميدانيا وقادرون على تحمّل المسؤولية.
بقلم علي البعزاوي