بعد أن كسبت الحرب في سوريا أصبحت روسيا لاعبا أساسيّا في الشرق الأوسط وتـُمْسِكُ بأهمّ الأوراق في القضايا الشّائكة التي تهزّ هذه المنطقة وفي مقدّمتها الوضع السوري وقضايا الإرهاب والأمن والملف النووي الإيراني.
ويأتي تعاظم الدّور الروسي في المنطقة نتيجة تراجع الدّور الأمريكي والأوروبي وتعزيز الموقف الروسي بتحالفات جديدة جاءت من الجانب التركي الذي تدارك الأمر في الوقت البديل ومن الجانب الصّيني الذي لا يخفي تقاربه مع روسيا في مجمل القضايا العالمية والإقليمية.
الولايات المتّحدة في التسلسل
راهنت أمريكا منذ انطلاق الأزمة السّورية على إسقاط نظام بشار الأسد واعتقدت أن الأمر هيّن في ظل اندلاع ثورات ما يسمى بالربيع العربي وسقوط أنظمة استبدادية عتيدة وخاصة في ليبيا ومصر… وانتهجت واشنطن سياسة متطرّفة في علاقة بنظام الأسد وانخرطت بشكل كامل في محاولة إسقاطه عن طريق القوة العسكرية وذلك بدعم المعارضة المسلّحة بما في ذلك الضالعة في ممارسة الإرهاب…
لكن مع اشتداد الأزمة السورية وفشل الثورة الشعبية السورية السلميّة وتحوّلها إلى حرب أهلية مدمّرة تتحكّم فيها القوى الإقليمية بدعم مباشر من واشنطن والاتحاد الأوروبي، سارعت روسيا إلى نجدة النظام السوري عبر التدخّل العسكري المباشر مراهنة على بقائه في السلطة رغم خسارته لعديد المناطق ورغم الضّربات الموجعة التي تلقّاها…
وقد كان هذا التّدخل الروسي حاسما في بعثرة الأوراق الأمريكية وإجبارها على اللّعب في التسلل وهو ما جعل الرئيس الأمريكي الفائز مؤخّرا، ترامب، يركّز حملته الانتخابية على فشل السياسة الخارجية لخصمه الحزب الديمقراطي الحاكم في التّعاطي مع الملف السوري. ومع اقتراب تولّي ترامب السلطة في أمريكا فإن كل المؤشّرات تؤكد أن هذا الأخير لن يعمل على تقليص النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط بقدر سعيه للتعاون مع بوتين من أجل اقتسام النفوذ بشكل ديبلوماسي بالنظر للعلاقة “الودّية” التي تربط الزعيمين.
الاتحاد الأوروبي يصوّب خارج المرمى
مثلما جرت العادة فإن موقف الاتحاد الأوروبي من الملف السوري لم يكن سوى انعكاس للموقف الأمريكي، رغم أن دول هذا الاتّحاد معنيّة بشكل مباشر بهذا الملف على عكس واشنطن التي تعتبر بعيدة جغرافيا عنه. وحتى عندما انعكست الأزمة السورية على الأوضاع الداخلية في أوروبا، وخاّصة بتدفق اللاجئين واتساع دائرة الإرهاب، فإن الاتحاد الأوروبي بقي مصرّا على مواقفه التي أثبت الواقع عدم صوابها وسقطت كل الأوراق التي راهن عليها بما في ذلك تسليح المعارضة والضغط على روسيا عبر التلويح بالعقوبات…
وبعد أن كسبت روسيا الحرب في سوريا لم يكن أمام دول الاتحاد الأوروبي التي تقودها فرنسا وألمانيا بعد خروج بريطانيا سوى القبول بالموقف الروسي والموافقة على وقف إطلاق النار والتّحضير لبداية مفاوضات سياسيّة بين النظام والمعارضة والتي سيكون لروسيا الكلمة الفصل فيها.
تركيا على بنك الاحتياط
تفطّنت تركيا إلى أن التّمسك بمواقفها المتشدّدة حيال النظام السوري لن تقودها إلى تحقيق أهدافها المعلنة والخفيّة في علاقة بهذا الملفّ، فسارعت إلى تدارك الأمر وإعلان الاعتذار لروسيا وتقديم كل التنازلات اللّازمة بما في ذلك التراجع عن شرطها بضرورة عدم إشراك الأسد في أي مفاوضات بشأن مستقبل العملية السياسية في سوريا.
وبالتحاق تركيا بالحلف الروسي تدعّم موقف روسيا وأصبحت في طريق مفتوح نحو هندسة المرحلة الانتقالية في سوريا وفرض رؤيتها مستغلّة العمق التركي وتأثيره المباشر على الأوضاع في كامل المنطقة وخاصة على الحدود السّورية. وما زاد التّقارب الروسي التركي هو الأوضاع الداخلية المتوتّرة التي تعيشها تركيا بعد الانقلاب الفاشل وفتور علاقتها بالاتحاد الأوروبي وبواشنطن وحاجتها لعلاقات خارجية قويّة تخرّجها من عزلتها وتخفّف عنها الضغوطات الداخلية بسبب تنامي الإرهاب والخارجية بسبب الملف الكردي وانتهاكات حقوق الإنسان.
نظام عالمي جديد بصدد التشكل
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن الماضي لم يشهد النظام العالمي تحوّلا جذريا كالذي يشهده اليوم. فبعد سيطرة القطب الواحد بدأ الآن يتشكل قطب جديد قادر على إحداث التوازن مع واشنطن، هذا القطب تقوده روسيا ويضمّ قوى إقليمية هامّة هي إيران وتركيا إلى جانب الصّين التي لا تخفي تقاربها مع روسيا في مجمل القضايا العالمية خاصة بعد تصريحات ترامب المعادية للصّين في علاقة بالملفّ التايواني.
لكن لا يجب التفاؤل كثيرا بخصوص هذا الحلف الجديد وما يمكن أن يوفّره من الحدّ من النفوذ الأمريكي وإمكانية استفادة الدّول التابعة والضّعيفة من ذلك لأنّ روسيا وأمريكا قد يختلفان في بعض التوجّهات العامة حسب المصالح الخاصة بكل طرف لكنهما لا يمكن أن يختلفا بخصوص اقتسام النفوذ على حساب شعوب المنطقة.
عبد الجبار المدّوري