في ظلّ حاضرنا المتّسم بتعكّر المشهد، وتوزّع الأزمة، لتشمل كافة المجالات الحيوية منها والضرورية، من المهمّ طرح السؤال الذي يهمّ مستقبل الشعب التونسي. ومن بين الأسئلة المرتبطة بالمستقبل هي كيفية التعاطي مع هجرة العقول، والتي يقابلها ويواجهها اليوم سؤال حول عودة قتلة العقول. في هذا الإطار، أتناول الموضوع من زاوية ارتباطه بالتونسيّين بالخارج باعتبار، جزء هاما منهم يندرج ضمن هذه الفئة.
أيُّ مستقبل ينتظر الطّلبة التونسيّون بالخارج؟
ترسّخت لدى عدد هام من التونسيين منذ سنوات، فكرة مواصلة الدراسة بالخارج، خاصة منها الجامعية. لذلك أصبحت لدى عدة شرائح اجتماعية حلما مرتبطا بالنجاح والكسب المالي وتحسين الوضع الاجتماعي أو المهني أو لاكتساب معرفة متطوّرة تؤهل لمستقبل أفضل.
على مرّ عشرات السّنين الفارطة يمكن ملاحظة ثلاثة مسارات لهذه الهجرة لمناطق محددة من العالم، وهي بالأساس أوروبا وكندا. أما باقي الدول فيعتبر العدد محدود نسبيا. تمثلت المسارات الثلاثة الأكثر انتشارا، أولا، في البعثات الحكومية المنظّمة في إطار اتفاقيات ثنائية. يليها ثانيا، الهجرة على الحساب الخاص للطلبة المتفوّقين من مختلف الشرائح الاجتماعية. أما الثالث، فهم اللذين لم يتمكّنوا من النجاح ولديهم رغبة في مواصلة المشوار الدراسي. إضافة إلى عدد هام من اللّذين فقدوا الأمل في إمكانيّة مستقبل مرتبط بشهاداتهم العلمية في تونس.
هذه الأعداد الهائلة من الطلبة اللذين هاجروا بعد أن صُرفت عليهم الأموال الطائلة من قبل الدولة، أي من قبل المجتمع، من المفترض أن تكون لديهم قنوات ربط مع مؤسّسات الدولة حتى يتحوّلوا إلى قوّة مفيدة لتونس دولة ومجتمعا.
إذا ما وقفنا على وضعهم راهنا، سواء الطلبة منهم أو من أنهوا دراستهم، فأين يمكننا أن نجدهم؟ كيف يمكن لتونس الاستفادة من أبناءها في الخارج في مجال البحث العلمي والتكنولوجي وتحويل هجرة الطاقات الفكرية والعلمية من تفقير للمجتمع إلى قوّة حقيقية مستقبلية في مجال العلوم بمختلف تفرّعاتها، وبالأخص النظرية والتطبيقية؟
الطّلبة التونسيون بالخارج: بين واقع التّهميش والمستقبل الممكن
يعاني الطلبة خارج التراب التونسي مشكلات عدّة، أبرزها السكن والمنحة وعدم متابعة مؤسّسات الدولة لمسارهم الدراسي، على خلاف ما تفعله الدّول المتقدمة التي راهنت ولا تزال على شبابها المتعلّم.
وإذا ما عدنا إلى المصالح المختلفة بالمؤسّسات التونسية المتواجدة بالخارج فلن نجد أثرا دقيقا وملموسا لآلاف الطّلاب، لا إحصاءً ولا متابعة، ممّا يؤكد التخلّي التام عنهم، وعدم طرح السؤال المتعلّق بإمكانية مساهمتهم في رقيّ تونس وعصرتنها. هذه المشكلات دفعت بآلاف منهم إلى ترك الدراسة والتوجّه إلى الحياة العمليّة لتوفير احتياجاتهم. إنهم محرومون من أبسط سند من قبل الدولة، سواء في تونس أو خارجها، وأغلبهم غادر الدراسة للعمل في ميادين الفندقة والمهن الحرّة التي لا تتطلّب اختصاصا، وبذلك تحوّلوا إلى يد عاملة هشّة مهدّدة بالتسريح والبطالة والتهميش، إضافة إلى ضياع عشرات السنوات من الدراسة والحلم ومن تكلفة باهظة دفعها المجتمع التونسي.
لذلك لابد من معالجة جديّة لمتطلبات الشباب الطلابي الذي يمثّل عنصرا أساسيا من الذكاء التونسي والكادر المستقبلي. فبالإمكان إعادة رسم منظومة بديلة يستفيد منها الجميع، وتحافظ على نخبة مهمّة من التونسيين، وتنطلق من إعادة الربط بينهم وبين وطنهم.
في هذا الإطار وضمن الاتفاقيات المبرمة بين تونس وعدة دول، لماذا لا يتم طرح مشكل السكن الخاص بالطلبة دون تمييز بينهم مثلما فعلت عدة دول في إطار المصالح المتبادلة؟ ألا يمكن، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية بالخارج، دمج حاملي الشهادات العليا بمراكز البحوث بإسناد ومتابعة من الجهات التونسية الرسمية والتي لها مصلحة ملحّة في ذلك؟ لماذا لا تعمل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على بعث هيكل يجمع أهم الخبرات والكوادر الأكاديمية والعلمية من التونسيين بالخارج حتى يساهموا في تطور وطنهم؟ هل من الصعب إحداث لجنة لمتابعة الشأن الطلابي على جميع المستويات من التّرسيم، إلى الدّراسة إلى التخرّج والرسكلة إلى مجال البحث والعمل؟ هل من الصعب بعث مكتب وطني على مستوى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يتابع طلبة المرحلة الثالثة والبحوث العلمية المنجزة من طرفهم وربط العلاقة الدائمة بهم وفتح الآفاق أمامهم كعقول تونسية مهاجرة تستحقّهم تونس سواء من الناحية الأكاديمية أو الخبرة بمختلف مجالات العلوم؟
هل نحن في حاجة لمركز تونسي للخبرات والكوادر بالخارج؟
ما من شك أن تجارب الدول في هذا المجال والتي تمكّنت من النجاح في الإحاطة بكوادرها الفكرية المهاجرة تمثل مثالا هاما بالنسبة لنا، لأن في ذلك تكريس لسيادتها ولرقي شعبها. من الضروري أن نعمل على تطوير المعارف والعلوم والتكنولوجيا والخبرة في كافة مجالات الحياة بالاستفادة من جزء هام من التونسيين المشتّتين بعدة مناطق من العالم. الشعب التونسي رغم أن لديه نخب نوعيّة في هذا الشأن إلا انه لم يقع مد الجسور بينها عبر آلية موضوعية تجعلهم في اتّصال بعضهم ببعض والتخطيط للمشاريع المستقبلية، كما أن هذه النخب ظلّت بعيدة كل البعد عن الأحزاب والجمعيات والمنظمات التونسية وعن المثقفين والمبدعين والفنانين لأن الاقتراب منها يستوجب آليات لتأطيرهم.
إن تونس ما بعد الثورة تحتاج إلى بعث مركز تونسي للخبرات والكوادر بالخارج يكون أحد المؤسسات التي تجمع التونسيين من مثقفين وأكاديميين فينظّم الندوات ويلعب دور وطني في تجميع كافة التونسيين لإشعاع المساهمة التونسية في الفكر والإبداع على كافة المستويات في ظل غياب تام للمؤسسات الرسمية في مجال تأطير هجرة “الأدمغة”
اللغة والتاريخ كعناصر أساسية في تكريس الانتماء لتونس لدى أبناء الجالية التونسية
من بين أهم الإشكالات التي تشغل بال التونسيّين بالخارج هي مسألة التعليم واللغة العربية، لأن الأسر التي تريد تعليم الأبناء اللغة العربية تجد صعوبات هائلة أمامها، حتّى أن نسبة هامة منها لم يتمكّن من تدريس أبناءه العربية، وبذلك خسر أبناءه لغة من المفترض أن تمثّل لديه مدخلا هاما اجتماعيا ونفسيّا. مما تسبّب ذلك في عدّة عوائق ثقافية ونفسية وفكرية للأبناء أنفسهم تجاه أسرهم أو عند عودتهم إلى تونس، وممّا أنتج أيضا بروز جيل من التونسيّين من غير الناطقين باللسان العربي رغم تشبّثهم بتونس وطنا وثقافة وهويّة ولغة.
أما الفضاءات الخاصة وشبه الخاصة والجمعيات الناشطة في مجال تدريس اللغة العربية، فإنها تشكّل على الأقل أربعة علل أساسية:
العلة الأولى: توجد مدارس لتعليم اللغة العربية أغلب مؤسّسيها من بين التونسيين أنفسهم، ولكن علّة هذه المدارس أنها تدرّس خارج مجال المدرسة أي أنها إضافية للمدرسة الأساسية، ومن بين الصعوبات أن التلميذ لا يجد الوقت الإضافي أو المقدرة الذهنية للملائمة بينهما. فتكون بذلك عبارة عن نشاط ثانوي ولكنه مكلّف للأسرة على جميع الأصعدة.
العلة الثانية: أن هذه المدارس لا تفصل بين تعليم اللغة وتدريس الشريعة الإسلامية من منظور مذهبي تحزّبي، بل إنها تتناول اللغة من زاوية دينية، وتركّز على توجيه السلوك والتركيز على الأخلاق من منظور جامد، مما يجعلها بمثابة الكتاتيب وليس بالمدرسة العصرية. والخطورة في هذا ليس تعليم اللغة بارتباطها بالديني الذي هو جزء أساسي في التربية اللغوية والروحية والحضارية للمدرسة التونسية وإنما في البعد المذهبي ذو الخلفية السياسوية. فأغلب المدارس، إن لم نقل كلّها، يسيطر عليها الخط المذهبي لأنها تحت سيطرة أحزاب وتنظيمات دينية سواء بدعم من بعض الدول العربية أو من قبل تنظيمات محلّية متواجدة بالمهجر تستعمل اللغة العربية كمدخل للمذهبية والحزبية إضافة إلى بعدها التجاري.
العلة الثالثة: أن بعض الدول العربية وأساسا الخليجية تستثمر في هذا المجال وفقا لسياستها الخارجية من موقع الصراع السياسي والمذهبي وهي تعمل على نطاق واسع في هذا المجال، ومن بين مخاطره هو استعمال هذه المدارس لغاية إحداث توازنات ليس للتعليم علاقة بها، وهي التوازن بين الجاليات العربية والمسلمة فيما بينها في أوروبا وبعض الدول الإفريقية والعربية.
العلّة الرابعة: أن تعليم اللغة العربية مكلّف ممّا جعل عديد من المهاجرين عاجزين على التغلب عن النفقات الإضافية.
إن الصراع الجاري إقليميا ودوليا، غير معزول عن اللغة وتاريخ الأوطان وشعوبها، وهي معركة ضروس تدفع ثمنها الدول غير القادرة على صيانة وإعلاء شأن هويتها الحضارية وتاريخها بدعوى أن هناك لغة مفيدة وأخرى لا تمثل لغة العصر. يمثل هذا الطرح إيديولوجيا عنصرية وهيمنية، لأن اللغة جزء من الانتماء ومدخل أساسي لفهم كل فرد لمجتمعه تماما مثل التاريخ الذي ينسّب الأمور ويقدّم رؤية عقلانية وموضوعية عن بلادنا.
من الضروري اليوم إعادة فتح ملف التعليم والتأثير في أبناء التونسيين بالخارج عبر تدريسهم اللغة العربية وتاريخ تونس، وهو أمر لا يتناقض والمدرسة العمومية في الدول المتواجدين بها. وإذا لم تتدخل الدولة في هذا الإطار فإن مكانها لن يكون سوى لقوى أخرى سوف تعمّق في خسارة التونسيين وسوف يستمرّ الذكاء التونسي في التشتت.