ينعقد نهاية هذا الأسبوع وعلى امتداد أربعة أيام بتونس العاصمة المؤتمر الوطني الثالث والعشرون للاتحاد العام التونسي للشغل. ويكتسي هذا المؤتمر أهمّية خاصة في تاريخ المنظمة الشغيلة لأكثر من سبب وعلى أكثر من واجهة.
يتوّج هذا المؤتمر أربع سنوات من نشاط الاتحاد تحت قيادة شابّة كان الجميع يعتقد أنها ستجري تغييرات عميقة على الخط التقليدي للمنظّمة في مناخ سياسي مغاير تماما للأجواء التي جرت فيها المؤتمرات السابقة ومواتي لتطوير هيكلة المنظمة وأدائها. ولكن حصيلة هذه المدّة تثير في الأوساط النقابية وخارجها جدلا واسعا بين راض عنها ومنتقد لها.
لا شك أن الاتحاد أحرز جملة من النجاحات سواء في المفاوضات الاجتماعية الخاصة بالزيادة في الأجور وآخرها الاتّفاق مع حكومة يوسف الشاهد حول زيادات السنة الجارية والسنة القادمة أو كذلك المفاوضات حول الاتفاقيات القطاعية المشتركة والميثاق الاجتماعي. ولا شك أن النضالات التي خاضها النقابيّون في العديد من القطاعات أحرزت مكاسب لفائدة منخرطيها وأعطت للاتحاد كمنظمة مكانة وتقديرا متزايدا لدى أوساط واسعة من الشغّالين خصوصا في ظروف بات الاتّحاد يواجه منافسة نقابية من بعض المنظّمات الجديدة التي عرفت النور بعد الثورة.
وإلى جانب هذه النجاحات كان الاتحاد خلال المدّة النيابية المنصرمة “اشتغل بالسياسة” أكثر ممّا كان منتظرا منه. وقد سطع نجم الاتحاد على الساحة السياسية إثر الأزمة الحادة التي عرفتها البلاد غداة اغتيال الشهيد محمد البراهمي فقد “استنبط” آلية الحوار الوطني وقاد جولاته إلى أن تمّ الاستغناء عن حكومة العريّض ومجيء حكومة مهدي جمعة بديلا عنها. وهو ما جازته به مؤسّسة نوبل بجائزته للسلام للسنة قبل الماضية.
وفي صيغة شبيهة ولكن في سياق سياسي مغاير كان الاتحاد شريكا في مشاورات قرطاج لتشكيل ما يسمى بـ “حكومة الوحدة الوطنية ” الذي أضفى عليها بمشاركته هذه شيئا من المصداقية. لذلك بدا في وقت من الأوقات أن الاتحاد قد تحوّل إلى فاعل سياسي أكثر منه إلى منظمة نقابية. وهي سمة قديمة ومتجذّرة في ثقافة التجربة النقابية التونسية ككل.
غير أن هذه المنجزات لا يمكن في الحقيقة أن تحجب عنّا نقاط الخلل والنقص التي تداول فيها النقابيون من زمن بعيد وبالخصوص من أحداث 26 جانفي 78 الأليمة. لقد بلورت حركة المقاومة للانقلاب على الشرعية برعاية السلطة آنذاك أرضية نقابية طرحت المحاور الكبرى لإصلاح المنظّمة وتصحيح الحركة النقابية التونسية، وهي الأرضية التي تختزلها الشعارات الثلاث الشهيرة: الاستقلالية والديمقراطية والنضالية، التي لا زالت على راهنيتها ومحافِظة على مدلولاتها السياسية والنقابية.
من هذه الزاوية بالذات لا نجد في حصيلة المدّة المنقضية ما يفيد تقدّم الاتحاد باتّجاه إصلاح نظام عمله وهيكلته في أفق التخلص ممّا علق به من مركزة وبيروقراطية وكل التقاليد البالية كالزّبونية والتملّق والتسلّق والنزعات الفئوية والجهوية وتغييب الهياكل ذات القرار لفائدة مراكز القرار التنفيذي، علاوة على تغييب دور القواعد والاستمرار في حملات “التسخين” و”التبريد” وتوظيف المنظمة في المآرب السياسية والفئوية والشخصية.
على هذا الصعيد لم يكن الفريق الشاب، والذي يأتي أغلب أعضائه من أفاق يسارية وتقدّمية، في مستوى الآمال المعقودة عليه، بقدر ما كرّس جهده ومؤهلاته لمزيد ترسيخ النهج القديم والثقافة النقابية الموروثة. لقد تثبتت تلك الحقيقة المتداولة أن إرادة “الماكينة” أقوى من أحلام “المناضلين” وبراعتهم في تزيين مساوئ الحركة “وتنظيرها”. ولا يخلو الأمر طبعا لمن يعلم دقائق مجريات الحياة وتفاصيلها من مصالح جديدة مرتبطة بمواقع ليس من اليسير الصّمود أمام إغراءاتها وضغوطها.
محطّة في سياق القديم المتجدّد
ينكبّ المؤتمر الثالث والعشرون للاتحاد على جملة من اللّوائح. وإذا كان مضمون أغلبها معلوما، فإن ما يشدّ الانتباه هو اللائحة الداخلية ومسألة الهيكلة التي تأتي ولا شك في ظرف يتطلّب فعلا مراجعة تنظيم الجهاز التنظيمي هيكلةً ونظام عمل. بل لربّما كان يفترض أن هذه المسألة قد عُولِجت من سنوات مضت بالنظر للتحوّلات الكبرى التي عرفها عالم الشغل وأوضاع الطبقة العاملة في تونس. ولكن يبدو أن تناولها هذه المرّة يُراد من ورائه إعادة النظر في مكسب ديمقراطي هام جاء في غمرة حركة “التصحيح النقابي” سنة 2002 ألا وهو الفصل 10 من القانون الأساسي للاتحاد ومنع الترشّح لأكثر من دورتين متتاليتين. أوساط نقابية واسعة تخشى أن يقع تمرير هذا التراجع تحت عنوان إعادة الهيكلة والإصلاح التنظيمي.
من جانب آخر يفترض أن يتعمّق هذا المؤتمر في استيعاب التحوّلات الجارية على أوضاع الطبقة العاملة والوضع السياسي والاجتماعي في بلادنا ككلّ بعد الثورة. والمطلوب طبعا هو أن يقع تعميق مفهوم الاستقلالية وتركيها في مقرّرات ملموسة حيال منظومة الحكم الجديدة التي لم تعد تستند كما كان من قبل لنظام الحزب الواحد.
ففي الأوضاع الجديدة تغيّرت الأساليب لاختراق المنظّمة واستيطانها من الدّاخل وجرّها بشكل “ناعم” وراء هذا الحزب أو ذاك. وفي هذا الإطار قد “تتلاشى” أو تضعف خطوط الفصل بين حقّ النشطاء السياسيّين في العمل داخل الاتحاد وبين مسعاهم للهيمنة عليه وتذييله لأحزابهم، وبالخصوص عندما يتعلّق الأمر بأحزاب رجعيّة لا تلتقي مع المنظمة الشغيلة في رؤيتها العامة للاقتصاد والمجتمع والحريات والنظام الديمقراطي.
أما على مستوى الانتخابات، فإن ما راج هذه الأيام حول الصراع بين غالبية أعضاء المكتب التنفيذي المتخلّي وزميلهم قاسم عفيّة يسمح بالقول أن لا تغيير كبير سيحدث على رأس المنظمة باعتبار أنّ الأماكن الشاغرة المعروضة على التنافس لا تتعدّى الثلاثة. وسيكون “للماكينة” دورها المعتاد في التّأثير على اختيار النّواب، بما أن التقاليد القديمة وعوامل الضّغط المعهودة مازالت تتمتّع بكل نفوذها في وسط نقابي يتميّز بثقافة “احتراف المسؤوليات” le carriérisme syndical ولاعتبارات أخرى جهويّة وقطاعية شكّلت قاعدة للمفاهمات التي سبقت المؤتمر في إطار التّوافق برعاية الأمين العام المتخلّي حسن العباسي.
وإذا كان من غير المستبعد أن يكون الفريق الفائز خليطا من مرشّحي القائمتين فإنّ حظوظ العديد من الكفاءات النقابية التي قد تعطي لعمل القيادة الإضافة المطلوبة، تبدو ضئيلة.