أثارت عملية الاغتيال الجبانة التي كان ضحيتها الشهيد محمد الزواري في الشّهر الماضي بمدينة صفاقس، جدلا في بعض الأوساط السياسية وبعض دوائر المثقفين حول عديد القضايا التي نعتقد أن بعضها وجيه وبعضها مفتعل وزائف ويعكس انبتاتا فكريا وسياسيا لعديد الأوساط التي تنزع للتّرف الفكري الذي لا يفيد البلاد ولا العباد ويفتح على سياقات وارتباطات مشبوهة كي لا نقول شيئا آخر.
*حول دلالة الاستشهاد
لفظ الشهيد في العربية ينهل من أصل اشتقاقي يغلب عليه الجانب الديني المرتبط بحالة الموت وما تفترضه من إطلاق الشهادتين، وفي لغات أخرى يرتبط الاستشهاد بالرسالة والهدف والقضية التي قضى الإنسان وهو يعمل من أجلها، هذه القضية هي في الأصل قضية جماعية عادلة ضحّى الفرد من أجلها بحياته مثل قضية الحرية والعدالة والتصدّي للمحتلّ.
وقد ارتبط لفظ الاستشهاد في عالمنا المعاصر بالحركة الاجتماعية الصّاعدة والتي تناضل من أجل عالم خال من الاضطهاد والطبقية. كما ارتبطت عند الشعوب المحتلة والمستعمرة بالنضال التحرّري ضد الاستعمار وسياساته، أو بالنضال ضد الدكتاتورية والاستبداد.
والاستشهاد مرتبط بأرض المعركة سواء العسكرية أو السياسية والثقافية والحقوقية والاجتماعية من خلال تصفية المشاركين في العمل النضالي أو المساهمين فيه والمساعدين له والمتعاطفين معه من مختلف المواقع في الداخل أو في الخارج. كما يكون الاستشهاد توصيفا لغير المشاركين بصفة واعية أو مقصودة في النضال والكفاح مثل الأشخاص والجماعات التي يطالها الرصاص بالصدفة أو بمقتضى نتائج الطبيعة القمعية للنظام القائم.
والشهداء قد يكونون أشخاصا دون أسماء لذلك تعتمد كل البلدان، وخاصة التي تعرضت للقهر الداخلي أو الخارجي، لتكريم شهدائها من خلال ضريح الجندي المجهول، ومن خلال المقابر الجماعية لضحايا الاحتلال أو الاستبداد.
كما تعتبر الأحزاب والمنظمات من قضوا دفاعا عن مبادئ وقيم الحزب والمنظمة شهداء تكرّمهم وتحيي ذكراهم.
*حول شهداء التحرر الوطني
تناضل الشعوب المحتلة وحركاتها التحررية من أجل التحرر والانعتاق، ولهذا النضال أشكال متعددة ومتنوعة وتشارك فيه الفئات والطبقات المختلفة بأقدار مختلفة، وقد عرفت الحركات التحررية منذ القرن التاسع عشر أشكالا متعددة للنضال الوطني والتحرري الذي شاركت فيه حتى الطبقات المحافظة أو التي كانت مسيطرة ومتنفّذة مثل الإقطاع في عديد أقطار الشرق مثل الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب والأمير عبد القادر الجزائري، والقائد عزالدين القسام في انتفاضتي 1936 و1939، ونفس الأمر في لبنان وسوريا وأفغانستان التي قال ستالين عن بعض قادة تحررها أن أميرا إقطاعيا يناضل من أجل صدّ الاحتلال عن بلده أفضل من حداثي يصمت عن هذا الاحتلال.
وقد تشكلت الحركات التحررية في القرن العشرين من مشارب ايديولوجية متعددة. ولئن هيمنت الخلفية الثورية ذات المضمون الاشتراكي على جزء هام من الحركات التحررية، فإن البعض الآخر احتكم
إلى أيديولوجيات قومية أو دينية أو وطنية، ولكن هذا لا يسحب عن تلك الحركات طابعها التحرّري مادامت تكافح ضد المستعمر.
وفي الوطن العربي شاركت بعض القوى ذات الخلفية الدينية وحتى المذهبية في حركات التحرّر، بل قادتها كما الحال في لبنان من خلال نموذج “حزب الله” ذي الخلفية الطائفية الشيعية التي تعتبر في المطلق رجعية ومعادية لمفهوم الوطن ولمفهوم التحرر أصلا، لكن الوقائع أكّدت أن سلاح هذا الحزب كان في الأصل سلاحا ضدّ الاحتلال الصهيوني الذي أبدع في إهانته وهزمه واسترجاع جنوب لبنان منه. لذلك يساند الشيوعيون والوطنيون الحقيقيون في لبنان والوطن العربي والعالم هذا الحزب في حربه ضد المحتل الصهيوني ويعتبرون مقاتليه وجماهيره الذين قضوا في الحروب والاغتيالات والاعتداءات شهداء، بقطع النظر عن أطروحاته الطائفية الرجعية التي تهمّ الأوضاع في لبنان أو في المنطقة.
وفي فلسطين التحقت منذ نهاية الثمانينات بحركة التحرر الوطني حركات الإسلام السياسي ممثّلة في حركتي حماس والجهاد، وهما حركتان رجعيّتان من جهة المشروع المجتمعي الذي تتبنّيانه وتدافعان عنه، لكنهما حركتان وطنيّتان من جهة مساهمتهما في الكفاح ضد المحتل الصهيوني، وذلك أيضا بقطع النظر عن خلفياتهما الايديولوجية وارتباطاتهما الإقليمية. علما وأن كل الحركات الفلسطينية الأساسية يمينا ويسارا لها ارتباطات إقليمية وأغلبها، حتى لا نقول كلها، منخرط في المحاور القائمة في المنطقة. وهذا الوضع ليس جديدا في حركات التحرر التي ارتبط أغلبها بتحالفات إقليمية ودولية تمليها مصالحها وتقديرها لمصالح شعوبها.
إن مساهمة حركتي حماس والجهاد في النضال التحرري الفلسطيني لا يقدر إلغاءها أي كان، وشعوب العالم والقوى التقدمية والثورية تساند النضال الوطني الفلسطيني بقطع النظر عن الهوية الايديولوجية لحامل السلاح المقاوم إن كان يساريا أو يمينيا. ونحن كشيوعيين نقولها بمنتهى الوضوح، أن إخوانيّا يحمل السلاح ويسقط في معركة الوغى ضد العدوّ الصهيوني، أفضل مليون مرّة من مدّعي “اليسارية والتقدمية” الذين ينخرطون في التطبيع والصمت والتواطؤ، وما أكثرهم على امتداد فلسطين ولبنان والوطن العربي.
إن هذا الموقف هو الموقف المتماسك الذي لا يحدّد الأدوار وفقا للأيديولوجيا بل وفقا للدور العملي الملموس الذي تقدّمه هذه الجهة أو تلك، وبلغة أخرى نحن نحدّد المعسكرات والتموقعات لا وفقا لما يقوله الناس عن أنفسهم بل وفقا لما يمارسونه على الأرض، ففي أوضاعنا التاريخية الحالية ووفقا لموازين القوى على الأرض يكون المحدد ليس ما تحمله الصدور والعقول بل ما تقدّمه الأيادي فقط بما يتطابق مع أهداف القضية.
*محمد الزواري شهيد تونس وفلسطين
ضمن المنطق الثوري المتماسك الذي ننتمي إليه، نحن نعتبر أن محمد الزواري هو أحد شهداء القضية الفلسطينية العادلة وهو عنصر من عناصر جناح مسلّح لأحد القوى الأساسية في الكفاح الفلسطيني المسلح، علما وأن “كتائب عزالدين القسام” التي انتمى إليها لم تشهر سلاحها إلا ضد العدو الصهيوني والمرة الوحيدة التي وجّهته ضد الداخل الفلسطيني كان ضد جوقة العملاء والخونة بقيادة محمد دحلان الذي كان حاكم غزة والذي كان يسهّل عمل الصهاينة في تصفية المقاومين من كل القوى بما فيها شرفاء فتح. وحتى هذا التدخّل الحمساوي كان مدان.
إن انخراط الزواري في المقاومة وبقطع النظر عن خلفياته الإيديولوجية التي تبقى حقا مطلقا للشخص المعني، لا يجب أن يُنظر إليه إلاّ من زاوية أنه انخراط في عمل وطني تحرّري يجب احترامه وتقديره وتثمينه، وتعاطف حزب العمال والجبهة الشعبية هو الحد الأدنى المطلوب باعتبارنا جزء من حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية والعالمية.
أما حديث بعض “البرج-عاجيّين” عن أن الشهداء هم فقط شهداء بلدانهم، فهو ساقط ومردود عنه، وتاريخ بلادنا وبلدان العالم حافل بالمساهمات البطولية للثوار الذين يلتحقون بكل المعارك العادلة، ولنا في أجدادنا الذين شاركوا في انتفاضات فلسطين وثوراتها دون استثناء، بل أن العديد من أبناء تونس والمغرب العربي التحقوا بفلسطين مشيا على الأقدام سنة 1948، وعديدون هم شرفاء تونس الذين ساهموا في ثورة الجزائر وقبلها في ليبيا…، كما أن عديد الشباب اليساري والتقدمي شاركوا في العمل الفدائي الفلسطيني مع مختلف الفصائل وكان التونسيون دائما يعتزون بهم ويعتبرونهم مصدر فخر، فلماذا هذا النقاش المجاني بمناسبة اغتيال مقاوم تونسي مع حركة حماس؟ أو ليس العماء الايديولوجي وضياع البوصلة هو الذي يحكم بعض أشباه المثقفين وأشباه السياسيّين الذين سمعنا سنة 2006 كلام أمثالهم حين كانت دولة العصابات الصهيونية تدكّ لبنان، حينها كانوا يشنّفون آذاننا بكون “طهارتهم ونقاوتهم” تمنعهم من مساندة “حزب الله” الطائفي والرجعي، حينها كنّا مع شعبنا نساند المقاومة ونفخر ببطولاتها.
علي جلّولي