ودّع التونسيون قبل أيام سنة اخرى بعد ملحمة 14 جانفي 2011 ، سنة سادسة لم يتغيّر فيها الكثير من حياتهم اليومية، ولم يتحقّق فيها ما يذكر من الشعارات التي رفعوها للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. حكومات متعاقبة لا علاقة لها بالشعارات التي ينادي بها الشعب ولا بالثورة، ومنظومات حكمٍ قديمة وفاشلة تجدّد تمظهرات الثورة المضادة وتجمّلها بكل المساحيق الرجعية والحداثية.. في غضون ذلك يتحرّك المشهد السياسي برمّته، يغزوه المتطفّلون والمتحوّلون والسّائحون وباعة صكوك الغفران والتّائبون والمتيّمون بالوفاق والمنقلبون على التّوافق والمروّجون للوحدة الوطنية والممزّقون لوثيقتها، فيرتفع منسوب العبث ويصبح الحديث بلا معنى ومع ذلك لا يجد البعض حرجا في تسلّق صهوة الدولة فيما يواصل البعض الآخر خداعها.
قد يقول البعض أنها صورة جدّ قاتمة لديمقراطية ناشئة يصفّق لها العالم كل يوم ويبشّرها بعض قادة الدول بالنجاح والتوفيق… لن نشكّك في نوايا هؤلاء الأصدقاء والأشقّاء فالتاريخ بيننا ولم نقف يوما على صدق نواياهم… ولعلّ ما نحن فيه اليوم راجع في جزء منه إلى ما يضمروه لنا في السرّ والعلن.
الحدث صنعه مؤخّرا رئيس حكومة التكنوقراط مهدي جمعة بعد أشهر من التّشويق والتّسريبات والحملات الممهّدة لظهوره الجديد على رأس كيان اختار له إسم “البدائل” لم يحسم بعد هويته، فقد يكون حزبا أو جمعية أو شيئا آخر، المهم أنه يوصل إلى الحكم، أو بالأحرى العودة إليه وهذا حقّ طبيعي في الديمقراطية الناشئة.
على أن ما يثير الاستهجان في موقف وسلوك “المهدي المنتظر” هو محاولة ركوبه على صهوة الدولة والظهور بمظهر المنقذ لها تحت شعار “كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن”. أما وصفة النجاح بالنسبة إلى باعث “البدائل” فهي “أن ننسى منطق الفئة والحزب ونشتغل بمنطق الدولة فالكلّ زائلون بينما الدولة باقية”!. وقد فات الرجل أن الحديث عن الدولة وعن رجال الدولة يستوجب تحمّل المسؤولية والاعتراف باستمرار الدولة، لا التنصل من إخفاقاتها، فعندما يقول جمعة أن قانون المالية 2017 لم يرسم توجّهات واضحة وخيارات تستجيب لما تحتاجه البلاد من أولويات، ويتكهّن بصعوبات جمّة للحكومة الحالية، نسأله: وكيف كان حال ميزانية 2015 التي قدّمتها حكومتك ولم تخرج فيها عن ضوابط الموازنات السابقة، وهي التي سطرّت أيضا توجّهات الموازنات اللاحقة؟
والاستغراب لا يقف عند حدود المهدي المنتظر، فها هم شركاء وأطراف وثيقة قرطاج لحكومة الوحدة الوطنية يقولون فيها ما لا تقوله المعارضة الراديكالية. فالحزب الجمهوري يساند التحركات الاجتماعية ويطالب الحكومة، أو بالأحرى حكومته، بـ “تغيير أسلوب التعاطي مع استحقاقات التنمية والتشغيل بعيدا عن سياسة إطفاء الحرائق والمسكّنات الوقتية التي أثبتت عدم جدواها”.. وبدوره يعبّر حزب المسار لحكومته “عن عميق انشغاله إزاء توتّر الوضع الاجتماعي وتواصل الاحتجاجات” ويؤكّد مساندته لها بل ويدعوها إلى “تفعيل القرارات التي اتّخذتها”..
أما باعث الاتحاد الوطني الحر، فقد أنذرنا بأن “نظام الحكم القائم بمثابة مبنى آيل للسّقوط وبالتالي لا بدّ من إنقاذ تونس .. بعيدا عن الانتهازية والبحث المتواصل عن السلطة على حساب الوطن”.. الابتعاد عن الانتهازية قاد الرّجل إلى وضع اليد في اليد مع مؤسّس حركة مشروع تونس المنشقّ بدوره عن النداء، والذي اكتشف أخيرا أن النهضة التي شكّل معها أول حكومة بعد انتخابات 2014 خطر على تونس “أصبح من الضّروري عزلها” دون سابق إنذار أو اعتذار.
ليس ذلك فحسب. وجه آخر من شقوق النداء الذين ناصبوا مؤسّس حركة المشروع العداء، وضع أيضا يده مع “المنقذين” بعد أن اكتشف أن وثيقة قرطاج التي وقّعها خصمه في ما تبقّى من حزبه والمنفرد بـ”الباتيندة”، لم تعد ذات معنى، وأن إخراج الوضع الراهن من الرّخو إلى الثبات، حسب زعمه، يفرض تغيير منظومة الحكم القائم وخلق بديل قادر على إعادة الحياة السياسية إلى سالف إشعاعها من خلال ترميم سقف الثقة بين السّياسيين والمواطنين الذيم ملّوا الوعود الزائفة!
ولا يقف العبث في المشهد السياسي عند هذا الحد. فالذين أطلق عليهم التونسيون صفة “الأزلام” يغزون المنابر ويُدلون بدلوهم في الشأن العام ويتحدّثون عن إنجازاتهم ويعطون الدروس ويستنتجون أن “الحكومات المتعاقبة لم تنجح في تحقيق التطلعات التي هبّ من أجلها الشعب” وينصحون بـ”تجاوز المهاترات الثورجية المشبوهة من أجل إنقاذ الوطن”..
في هكذا مناخ، تنأى الدولة وتحديدا حكام هذه الدولة الجدد بأنفسهم عن الدّخول في صراع مشروع لفرض هيبة الدولة وصون عزّتها ومناعتها، وبدل أن تُقدِم الجهات الحكومية المتوافقة والموحّدة على حسم ملف الوجود القانوني لحزب ديني يعترف بصريح العبارة بأنه لا توجد دولة إسمها تونس، تترك للمكتب التنفيذي للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي صلاحيّة مقاضاة هذا الحزب وطلب حلّه نظرا لخطورة تصريحاته التي تذكّرنا بتضارب التصريحات الرسمية بخصوص عودة الإرهابيين ممّا يسمى ببؤر التوتر..
وقد انضمّ رئيس الحكومة للثوار على ما يبدو هذا العام – في مستوى الخطاب- وبعد أن استعار كلمة شهيد الوطن شكري بلعيد “يلزمنا ناقفو لتونس”، فاجأنا صراحة بالقول “بقدر النجاح الذي حقّقته تونس في مجال الانتقال السياسي والديمقراطي فإنها أخفقت في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي قامت من أجلها الثورة”.. كلام الرّجل يأتي بعد عامين من اضطلاع حزبه بأعباء الحكم في نسختين حكوميّتين حضر فيهما وزيرا ثم رئيسا مع احتفاظ الحزب برئاستي الجمهورية ومجلس نواب الشعب… كلام جميل، لو وقع تنسيب النجاح في الحقل السياسي والديمقراطي حيث لم تُستكمَل الهيئات الدستورية ولم تجر الانتخابات البلدية ولم تُكشف حقائق الاغتيالات السياسية وأسباب انتشار الإرهاب في ربوعنا، وهي الشروط الدنيا لبداية حديث عن الإنقاذ الحقيقي وعن استئناف مسار تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
طرفة النهاية، يلتقي “الشيخان” في غفلة من حكومة الوحدة الوطنية ;ومن احزابها التسعة ومنظماتها الاجتماعية الثلاث من أجل “تفعيل مخرجات الندوة الدولية للاستثمار” !..
مراد علالة
صوت الشعب: العدد229