عادة ما يكون القمع وتراجع مساحات الحريّة والانغلاق السياسي سببا مباشرا في تراجع الإنتاج الأدبي والثقافي. ولكن أنظمة الاستبداد عادة ما تواجه حركات “تمرّد” ثقافي ومقاومة أدبية وفنية، وعادة ما يكون حملة هذه الرّسالة، رسالة المقاومة الثقافية، عرضة لكلّ اشكال القمع والانتهاك.
في هذا الإطار استضفنا لكم الروائي عبد الجبار المدوري لمحاورته حول خاصية كتاباته وحول آخر إصداراته. فعبد الجبار يتناول في رواياته الظروف الصعبة التي يعيشها الناس مبرزا الوجه البشع للاستبداد الذي يسعى لاستعبادهم. وتندرج كتاباته ضمن الأدب المقاوم/ المناضل، وهو أدب يعمل على إذكاء روح المقاومة والصمود وإحياء القيم العليا بين الناس لأن المقاومة ليست حالة ذهنيّة صرفة، بل هي عمل يومي ونضال مرير في وجه نظام ديكتاتوري مستبدّ وعكست تجربته النّضالية التي امتدّت على أكثر من ثلاثين سنة تعرّض خلالها لشتى أنواع القمع بسبب كتاباته ونشاطه السّياسي في حزب العمال.
حاوره: الهادي الزعراوي
لماذا اخترت عنوان “الليالي السّود” لروايتك الأخيرة ؟
غالبا ما أختار عناوين رواياتي بعد الانتهاء من كتابتها… وبعد أن انتهيت من كتابة روايتي الأخيرة اخترت لها “الليالي السود” عنوانا نظرا لِمَا يحمله الليل والسواد من مضامين ودلالات رمزية فضلا عن المخزون الشعبي الذي يرى في الليالي السّود ثنائية “التناقض بين القسوة والأمل” ففي الليالي السود يطول الليل ويشتد البرد، لكن هذه الليالي تبشّر بالربيع كما يقول المثل الشعبي التونسي “الليالي السّودْ يحْيَا فيهم كل عُودْ”… وهذا ما أردت قوله في رواية “الليالي السود” حيث حاولت أن أكون “متفائلا بالتغلّب على الإرهاب” الذي يبشر بالسواد والليل… فالرواية تتناول موضوعا راهنا وهو الإرهاب من زاوية الاستشراف والتخيّل والدّفع بالأحداث نحو نفق يبدو مظلما وأسودا ولا سبيل للخروج منه، لكن الأمل يظلّ قائما بفضل صمود ونضالات الشعب التونسي…
كيف اخترت شخصيات “الليالي السود” ؟
أنا أكتب بصفة عامة من خلال تجربتي الشخصية وأحاول توظيف هذه التجربة بطريقة تجعل الرواية قريبة من الواقع وهو ما يساعدني على التحكّم في الأحداث وفي تقديم شخوص الرواية في صورة واقعية تجعل منهم كائنات إنسانية تتأثّر بمحيطها الاجتماعي والسياسي والنفسي. وقد اخترت صحافيا بطلا لروايتي لأنّ ممارستي للعمل الصحفي جعلتني أكون قريبا من هذا الميدان وقادرا على تصوير ما يعانيه الصحافيّون أثناء أدائهم لعملهم من ظروف مهنيّة قاسية ومن مضايقات وتهديدات من عدّة جهات لا مصلحة لها في إعلام حر.
عشْتَ حياة مليئة بالنضال وتعرّضت للحرمان والاعتقال والتعذيب… هل عوّضتكَ الكتابة عن هذه السنوات ؟
الكتابة بالنسبة لي مسؤولية قبل أن تكون ردّة فعل على واقع معيش… صحيح أنّني أسعى أن أجعل من الكتابة سلاحا في مواجهة الجلّادين والمستبّدين، لكن ذلك لا يجعلني أسقط في الخطاب المباشر الخالي من الجمالية والإبداع بل إن ما يقودني دائما هو الالتحام بقضايا الشعب والوطن حتى أكون قريبا من القارئ المقموع بصفة خاصّة ومن الإنسان بوصفه كائنا متحرّرا بصفة عامة. وأحاول في كتاباتي الروائية أن أعبّر عن الذات الجمعيّة المحلّقة في فضاءات الكونيّة وليس عن الذات الفرديّة الغارقة في عزلتها… وقد ساعدتني الكتابة كثيرا على تجاوز مخلّفات القمع وأخرجتني من نفق الإحباط الذي حاول النظام حشر معارضيه وضحاياه فيه… ولا أخفي سرّا أن الكتابة ساهمت بشكل كبير في إبقائي “واقفا رغم قوّة الدفع نحو السقوط…
كيف تتابع ردود الأفعال على كتاباتك، وهل تسعى لإرضاء القارئ ؟
أقرأ كل ما يُكتـَبُ حول رواياتي وآخذ كل الملاحظات والأفكار الواردة فيها باهتمام بالغ سواء كان صاحب هذه النصوص ناقدا متمكّنا أو قارئا عاديا… كما أسعى لأخذ رأي القراء عبر الاستماع إليهم مباشرة أو من خلال الندوات الفكرية والإعلامية التي أحضرها… وأحاول قدر المستطاع إرضاء القارئ في كتاباتي رغم أن ذلك غاية لا يمكن إدراكها فأتجنّب الحشو وأوجز في عدد الصفحات حتى لا أثقل على القارئ وأستعمل لغة سهلة وخفيفة مع التّركيز على عنصر التشويق والحركة لشدّه وإمتاعه…
كيف ترى الوضع الثقافي في تونس بعد الثورة ؟
الثورة التونسية حقّقت شيئا مهمّا لأدباء تونس ولكل المهتمّين بالفكر والفن عموما وهي الحرية التي بفضلها تحرّرت العقول وعرفت تونس نقلة نوعية على مستوى الحريات وأصبح الأدباء يمارسون حريتهم دون قيود وينشرون مؤلفاتهم دون رقابة وانعكس ذلك إيجابيا على إبداعات الأدباء في تونس وشهدت تونس تحولا نوعيا وكميا في الإصدارات وتم نشر أغلب الكتب التي كانت مصادرة وممنوعة وتم الاعتراف بالهيئات الأدبية التي كانت ممنوعة من النشاط في عهد الدكتاتورية… هذا التحول الكمّي والنوعي أعاد الرّبط بين المبدع والمتلقي الذي صار يـُقبل نسبيّا على المادة الثقافية التونسية رغم عدم جدية الحكومات المتعاقبة في العناية بالشأن الثقافي ورغم رغبة الحرس القديم من النظام السابق في السيطرة على المنابر والمؤسّسات الثقافية وتوظيفها لخدمة مشروعهم الثقافي الرّجعي والمعادي لأهداف الثورة التونسية.
وما هي المشكلات التي تواجهها الأقلام الأدبية اليوم ؟
رغم ما حقّقته الثورة للمبدع التونسي فإنه مازال يعاني من مصاعب وضغوط عديدة مثل مصاعب النشر والدّعم والترويج والظهور الإعلامي وتساوي الفرص في الإنتاج والتّمويل العمومي وهذا مرتبط أوّلا بالسياسة الثقافية السّائدة التي مازالت تسيطر عليها لوبيّات الفساد وثانيا بنمط الإنتاج القائم على سلطة رأس المال وتدخّله في الشأن الثقافي
بماذا تنصح الشباب خاصة وأن كتاباتك تندرج ضمن أدب المقاومة والصمود وعرفت بها ؟
أنصح شباب اليوم بالمقاومة والصّمود في وجه الرداءة والابتذال وعدم الانسياق وراء موجة البروز السّهل والأضواء الكاذبة والابتعاد عن اللهث وراء التتويجات المشبوهة وأن ينكبوا على الكتابة وأن يكثروا من المطالعة لتطوير ملكاتهم والاختلاط بالناس لكسب التجربة والتمكن من الثقافة الشعبية مع ضرورة الانخراط في الشأن العام والمساهمة في النضال الاجتماعي والسياسي لاكتساب المواقف الثورية التي بدونها لا يمكن التأسيس لأدب تقدمي وطلائعي.