مسلم قصد الله وخالد بن نجمة ورشاد العربي وأسماء أخرى كثيرة اكتنفها النسيان في زمن الجحود والخيانة، في حين أنها صانعة ملحمة الثورة التي يتمعّش منها أعدائها بكل صلافة. لقد قدّم هؤلاء الجرحى في إطار جلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة شهادات مؤثرة جدا تناشد انسانيتنا لإعادة حقوقهم المهدورة وتفضح جميع الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفي وبدون استثناء بما أنها كلّها ساهمت في طيّ ملف شهداء وجرحى الثورة لتعميق الجراح ومضاعفة الآلام. هذه الشهادات تحثّنا على العودة إلى الماضي لتنشيط الذاكرة وإنارة الحاضر واستجلاء الحقيقة.
إن عملية التستّر عن الجرائم تعود إلى منتصف جانفي إبّان فرار بن علي، هذا المسار انطلق بالتحديد يوم 15 من ذلك الشهر حين سارعت عائلات الشهداء مصحوبة بمحاميها بتقديم شكاوى للمحكمة العدلية عوضا عن النيابة العمومية المسؤولة عن فتح الملف والذي لم يعرف طريق المحاكم إلا بتدخّل لسان الدفاع، ممّا يعني أن إثارة الدّعوى كان دورا مغيّبا تماما.
الأبحاث لم تبدأ إلا في 16 فيفري وتواصلت إلى يوم 6 ماي تاريخ إحالة الملف على المحكمة العسكرية.
خلال كل هذه المدّة لم تتقدّم الأبحاث قيد أنملة وذلك راجع إلى الدور الذي لعبته وزارة الداخلية خصوصا أيام أحمد فريعة في إفراغ الملف من مضامينه وذلك بإعدام كافة الأدلّة التي تدينهم، وكل ما قام به عميد قضاة التحقيق العدلي هو استنطاق للوزير الأسبق رفيق الحاج قاسم والرؤساء المديرين العامين، وكان فرحات الراجحي قد أكّد ضمنيّا تلك الإدانة بعزله لـ 47 ضابطا ساميا عند تولّيه الوزارة حسب محامي الدفاع.
لقد انتقل هذا الملف بصفة فجئيّة يوم 6 ماي إلى المحاكم العسكرية بعد أن قضى قرابة الخمسة أشهر في أدراج محاكم القضاء العدلي دون أن يحصل أيّ تقدم يذكر على مستوى الأبحاث، بل على العكس، فكلّما مرّ الوقت خفّ وزنه وقلّت قيمته حتّى صار يتبخّر كالجليد تحت أشعة الشمس الملتهبة. تحويل الوجهة هذه تمت استنادا إلى الفصل 22 الذي يعطي الصّلاحيات إلى المحاكم العسكرية كلما كانت قوات الأمن طرفا في القضية.
كل هذه العناصر تبيّن بما لا يدع مجالا للشك إرادةً مخطط لها مسبقا وسيناريو محبكا من طرف السلطات المعنية بالملف لإقصاء دور المحامين آنذاك.
لكن إلى جانب كل هذا هنالك حقيقة لا بد من ذكرها لأنها يمكن أن تكون سببا في نقل ملف الشهداء من المحاكم المدنية إلى المحاكم العسكرية، هو ما حدث في المحكمة الابتدائية بسوسة أين اقتحم خمسون عون أمن مكان الإيقاف وأطلقوا سبيل زميلهم. حادثة مثل هذه تبيّن أن هشاشة الأمن في المحاكم المدنية ويمكن إذن أن يبرّر الإجراء المذكور. إن محامي الدفاع يتّهمون قوات الأمن والجيش بتورطهما في دم شهداء وجرحى الثورة، فبالرغم من كل ما يقال عن الدور الإيجابي الذي لعبه هذا الأخير خلال الأحداث فإنه ليس بريئا تماما كما يزعم ويتصوّر البعض. لقد دخل على الخط، حسب رأيهم، مباشرة بعد فرار بن علي وأصبح يتقاسم الساحة مع قوات الأمن المتمثلة في أجهزة “قوات الأمن الرئاسي” و”قوات التدخل” و”قوات الأمن العمومي” التي وقع تحت مسؤوليّتها وحدها القتل من 17 ديسمبر إلى 14 جانفي.
تعويم الملف
هنالك دليل آخر يدعم ادّعاءاتهم، هو ما حدث في قضية محمد أمين القرامي حارس السّجن الذي اغتيل من طرف قنّاص عندما كان يحرس في الطابق السادس سجناء الرأي الذين تمّ نقلهم من سجن برج الرومي إلى سجن بوقطفة خوفا على حياتهم تزامنا مع حالة الانفلات والفوضى التي عمّت السجون. القاتل هو وكيل أول في الجيش اعترف بجريمته في التحقيق وتراجع في أقواله لاحقا.
هنالك أيضا العون بلال الشايبي الذي أدلى بشهادته ضد المدعو كريم بن سالم، رئيس مركز الشرطة السابق بالكرم وكذلك نورالدين لسود. إنه شاهد مهم لكن للأسف تم إيقافه على خلفية أحداث “العبدلية” وذلك للتمويه والتعمية على الأسباب الحقيقية التي باتت مفضوحة وهي طبعا إخفاء شهادته بإبعاده عن القضية دائما حسب محامي الدفاع.
لكن بقطع النظر عن أهمية هذه الشهادة في إدانة القتلة فإن هنالك طرقا أخرى بسيطة جدا ويمكن اعتمادها لإثبات الأدلّة وكشف كل المتورّطين من بينها مثلا رسم تمركز الوحدات في الساحات ودفتر الذخيرة والتسجيلات. لقد اتّصل أحد المحامين بقاعة العمليات للحرس الوطني للحصول على هذه الأخيرة خلال الفترة المتراوحة ما بين 13 و17 جانفي، لكن أفاده المسؤولون هناك أن المعدّات كانت في حالة عطب، ادّعاء كذّبه آنذاك بصفة قطعية الرئيس المدير العام محمد أمين العابد بالإضافة إلى ضابط آخر من نفس السلك.
بعض العيّنات هذه في التلاعب بالحقائق تفضح بما لا يدعو للشك خطّة الحكومات المتعاقبة الإجهاض على الثورة وذلك بإتلاف كل ما يتّصل بها، وخاصّة الجانب الشائك فيها: مسؤوليّة جرائم القتل والقنص، والكل يتفنّن في ذلك حسب الظروف والإمكانيات المتاحة. فحركة النهضة مثلا أغرقت هذا الملف لطمس كل الحقائق المتعلّقة به وذلك بإدماجه ضمن ملف المساجين السّياسيين والعفو التشريعي العام في إطار نفس اللجنة البرلمانية التي كانت تترأسّها النائبة النهضاوية يمينة الزّغلامي داخل المجلس التأسيسي. وبذلك قامت بتعويم هذا الملف سياسيا وقانونيا وكذلك على مستوى الحقوقي.
كما نرى فإنّ جميع هذه الحكومات تتعامل مع ملف شهداء وجرحى الثورة إعلاميا فقط من أجل الدعاية السياسية ليس إلا، أما عمليا فهي تتجاهله وتتقاذفه وكأنّه مرض معد تريد التخلص منه على وجه السرعة حتى تتخلّص من كابوس الثورة. إنه قنبلة موقوتة سوف ينفجر في وجه أعدائها طال الزمان أو قصر…
فوزي القصيبي
صوت الشعب: العدد 229