لا يمكن لشهر جانفي الذي يستعد لمغادرتنا أن يمضي دون أن يترك آثاره العميقة التي يصعب جدا محوها أو نسيانها. إن علاقة التونسيّين بهذا الشهر الذي يحتل مكانة خاصة لديهم علاقة عضوية وضاربة في القدم حيث أنه يرفع من منسوب غضبهم ويحثهم على النضال ويرفع هممهم ويشحذ عزائمهم. هل من تفسير لهذه الحمى الشتوية التي تتفشى في ربوع الوطن في مطلع كل سنة ادارية جديدة؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون صدفة؟
شتاء جانفي حافل بالأحداث السياسيّة والاجتماعيّة
لتاريخ تونس خصوصية، تتمثل في أن الأحداث المفصلية تحدث خلال شهر جانفي. يبرز ذلك انطلاقا من بداية سنة 1952 أين بدأت المقاومة المسلحة ضد الاستعمار المباشر والتي مثلت منعرجا في تاريخ الحركة الوطنية. يوم 18 جانفي من تلك السنة قرر الثوار التونسيون حمل السلاح بعد أن أدركوا أن الأساليب السلمية غير مجدية ضد الاستعمار الفرنسي الذي عمد الى ايقاف العديد من القياديين الوطنيين. عندها أدركت القوات الاستعمارية التي كانت تنعت الثوار ب “الفلاقة” لتحقير شأنهم أن لا خلاص لها لإنقاذ عرشها غير المناورة فاستعانت بأعوانها لإبرام صفقتي ما يسمى بـ “الاستقلال الداخلي” سنة 1954 و”الاستقلال التام” سنة 1956 وبذلك تم وأد الثورة والتخلص من قيادييها على غرار الطاهر لسود ولزهر الشرايطي.
لكن أسباب الانتفاضات الشتوية ليست سياسية فقط بل هي أيضا اجتماعية كما تدل على ذلك المحاكمات السياسية التي تمت في شهر جانفي من سنة 1963 على إثر المحاولة الانقلابية التي قامت بها في أواخر 1962 مجموعة لزهر الشرايطي والتي كانت تخفي أسبابا أعمق ذات طابع سياسي تتجاوز مشروع المجموعة الانقلابية وكذلك اجتماعي بما أن هذه المحاكمات كانت تستهدف في حقيقة الأمر رد فعل التونسيين المحتجين ضد تحول السلطة السياسية إلى حكم فردي أي إلى ديكتاتورية وكذلك ضد تدهور مقدرتهم الشرائية.
هذا الحراك السياسي والاجتماعي تدعم واشتد عوده على مر السنين وبلغ مرحلة متطورة بداية من 26 حانفي 1978، التي عرفت شبه ثورة عمالية أين طالب النقابيون باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل عن حزب الدستور الحاكم وبرفع يد هذا الأخير عن أجهزة الدولة والمجتمع المدني خصوصا عبر “الشعب المهنية” التي يهدف الحزب الحاكم من خلالها إلى تقويض الاتحاد وهياكله في مختلف المؤسسات وأين أبدت فئات واسعة من الشعب تذمرها من غلاء المعيشة ومن الإجراءات الليبيرالية التي اتخذتها حكومة الهادي نويرة آنذاك, إلى ثورة الحرية والكرامة، مرورا بانتفاضتي الخبز والحوض المنجمي.
جميع هذه الأحداث أفرزتها نفس الأسباب أي مطالبة الشعب بنصيبه في الثروة الوطنية وذلك بتوزيعها بشكل عادل على جميع الفئات وكذلك احتجاجه على تدهور المقدرة الشرائية بسبب إملاءات الدوائر المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
إن نفس الأسباب تنتج نفس النتائج حيث أن غياب العدالة الاجتماعية والتهميش والفساد والتهميش والظلم يؤدي بالضرورة إلى التمرد والانتفاض ضد المتسببين في ذلك.
في خفايا وأبعاد “التمرّد” الشتوي
إن المسار الثوري المتواصل يزداد وهجه في هذه الفترة من السنة كما تدل على ذلك التحركات النوعية للمفروزين أمنيا والحراك الاجتماعي الحالي في العديد من الجهات على غرار القصرين وبن قردان والمكناسي والذي يحاول الائتلاف اليميني الحاكم قمعه بواسطة جهازه الأمني وكذلك ميليشياته.
إن هذا الحراك لم يعرف هوادة أثناء نفس الفترة منذ فرار بن علي خصوصا في شتاء السنة الفارطة التي كانت شبيهة جدا بسنة 2011 بما أن البلاد عاشت خلال شهر جانفي 2016 موجة كبيرة من الأحداث على إثر استشهاد الشاب المعطل عن العمل رضا اليحياوي في شهر ديسمبر 2015 والذي كاد أن يكون محمد بوعزيزي آخر.
ونتذكر جيدا كيف تشدقت السلطة حينها بتعاملها “السلمي” مع هذه الأحداث متوجّهة بالشكر لقواتها القمعية على “ضبط النفس” محاوِلة إيهام الرأي العام أنها لجأت إلى ذلك طواعية ولم تكن مجبرة على الانحناء والإذعان للإرادة الشعبية المصمّمة على المضيّ قدما في الدفاع عن حقوقها المهدورة، في حين أنها تدرك تمام الإدراك أنها لو تجرّأت على استعمال القوة ضد المتظاهرين لكانت غذّت أكثر هذا الاحتقان ولأعطت نفسا جديدا للثورة، وربّما تدقّ المسامير في نعش نظام حكمها.
في الحقيقة هذا التشابه بين جميع هذه الأحداث ليس وليد الصدفة بل له مسبّباته الموضوعية حيث أنه يتم خلال هذا الشهر من كل سنة تحديد ميزانية الدولة والمصاريف العمومية وبالتالي الترفيع في أسعار المواد الاستهلاكية ومراجعة الاتفاقيات حول الزيادة في الأجور بما أن الحل الذي تسعى إليه الأنظمة الليبيرالية المتعاقبة يكون دائما على حساب الطبقات الهشة والضعيفة على غرار قانون المالية الحالي. يضاف إلى كل ذلك العامل المناخي بما أن طاقة تحمّل الجوع والبرد والفقر من قبل هؤلاء المحرومين والمعدومين محدودة جدا.
إذا قد تكون قساوة الطقس التي تميز فصل الشتاء الحالي عاملا إضافيا ومحفّزا على الحركات الاحتجاجية في هذه الفترة الصعبة جدا من السنة. وقد تكون الحركة الاحتجاجية الشعبية العارمة والمتأجّجة في أنحاء البلاد وقودا للتوقّي من البرد القارس الذي يجتاحها لتبعث فيها الدفء والحرارة ولتبث الأمل والتفاؤل في أحرارها وتحثهم على المقاومة والتحدي لرسم غد أفضل. فلتتدحرج وتتعاظم مثل كرة الثلج التي تغطي مرتفعات عين دراهم وتحمل في طيّاتها نقمة وغضب البؤساء…
فوزي القصيبي