كثر اللغط والصراخ في المدّة المنقضية بمناسبة التصويت في مجلس نواب الشعب على مقترح تشكيل لجنة تحقيق حول شبهة فساد في هيئة الحقيقة والكرامة، وهو ما كانت تقدّمت به كتلتي النداء والحرة التابعة لحزب المشروع منذ مدة. وبعرض المشروع على الجلسة العامة لم يتوفّر العدد اللازم، وبفارق صوت واحد سقط مشروع الجماعة الذي لم تصوّت لصالحه كتل الجبهة الشعبية والنهضة.
وبسقوط مقترح تكوين اللجنة انطلقت حملة شعواء استهدفت خاصة الجبهة، ولم تقتصر الحملة على أعضاء الكتلتين بل انخرط فيها بعض الإعلاميين والسياسيين تارة باسم الاستغراب من رفض الجبهة تكوين لجنة تحقيق بما يكرّس التعالي على المساءلة، وحرمان ممثّلي السعب من حق الرقابة، وطورا بالتساؤل عن سرّ التصويت المشترك بين عدوّي الأمس وانطلقت الأحاديث عن إعادة إحياء تجربة 18 أكتوبر، وعن طبخات تحت الطاولة وفوقها، بما عكس خيالا خصبا عند بعض مدّعي صناعة الرأي العام.
والحقيقة أن هذه الحملة تؤكد لدينا قناعة أن المنزعجين والمتضرّرين من انطلاق جلسات الاستماع قد بدأوا التحرك لإجهاض المسار والتّشويش عليه وإنهاكه بمعارك جانبية في هذه المرحلة الحسّاسة من المسار. كما أنه لا ولن تنطلي، حتى على المغفّلين، أن حزبي النداء والمشروع يعاديان الفساد ويتجنّدان لمقارعته، فهذين الحزبين بالذات هما نموذجان للفساد وحاميان من حماته، وهما استمرار لمنظومة الفساد التي حكمت تونس منذ خروج الاستعمار المباشر من بلادنا.
وهما، وغيرهما من الأحزاب البرجوازية التابعة، ليسا سوى غطاء لمصالح جشعة وتعبيرا عن نزوعات التسلط وهم آخر من يحق لهم الحديث عن مقاومة الفساد، الذي وصل مستويات غير مسبوقة في عهد حكمهم السعيد، ولو كانت لهم من المصداقية لحاربوه في جهاز الدولة الذي يهيمنون عليه ويقودونه، بحكم ارتباطهما عضويّا مع الطبقات الطفيلية والمافيا القديمة/الجديدة المتهرّبة من الضرائب والمرتبطة بالتهريب والجرائم الاقتصادية والمعادية للشعب والوطن.
للتوضيح، فإن الجبهة بعدم مصادقتها على لجنة التحقيق هذه ليس رفضا للمساءلة والرقابة، بل رفضا لاستعمال السلطة التشريعية في معارك حزبوية لا تفيد الشعب، علما وأن دائرة المحاسبات هي الإطار القانوني المخوّل ليس فقط للمراقبة بل أيضا للتدخل والمساءلة والإحالة على المحاكم في حال الإخلال أو الشبهة.
كما أن تصويت كتلة الجبهة ضد المقترح ليس بداعي الانحياز لهيئة الحقيقة والكرامة التي رفضت مكونات الجبهة التصويت لها في المجلس التأسيسي بحكم المعالجة الحزبوية لمكونات الترويكا لتشكيل الهيئة. إن تصويت الجبهة محتكم إلى مبادئ الجبهة وقناعاتها ولوعيها العميق بالرهانات المعلنة والخفيّة لمختلف القوى، بما في ذاك حركة النهضة التي صوّتت مع الجبهة، لا لاعتبارات مبدئية، بل إرضاء لأنصارها الذين يشارك عدد هامّ منهم في جلسات الاستماع لماضي الانتهاكات، ومن ثمّة لا يعقل التصويت لصالح قرار يعطّل المسار برمّته. إضافة إلى أن النهضة تقايض ملف المظالم التي تعرضت لها مع حليفها النداء بملف فساد رجال الأعمال ضمن ما يسمّى “المصالحة الاقتصادية والمالية” مضاف إليه مؤخرا ملف توبة الإرهابيين، وهي كلّها ملفات للبيع والشراء تحت الطاولة وفوقها خاصة مع حزب الدولة العميقة.
إن المستهدف اليوم من قبل القوى الرجعية هو استحقاقات الشعب على مختلف الأصعدة، والعدالة الانتقالية هي مسار يكشف الماضي المؤلم والإجرامي والذي لم تتورط فيه فقط أجهزة القمع، بل أيضا أجهزة الدعاية والكذب وجهات التواطؤ والصمت والوشاية و”التبندير”، لذلك يتحالف اليوم كل هؤلاء ضد الجبهة الشعبية وضد العدالة الانتقالية وضد كل استحقاقات الثورة.
لكننا سنتصدى لهم انتصارا لشعبنا ولتطلّعاته في غد أفضل.
علي الجلولي