ثمّة لُبس بريء لدى البعض، لكنه خبيث بأتمّ معنى الكلمة لدى البعض الآخر، يتعلّق بمسألة استمرار الدولة بعد ملحمة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011.. طبيعي أن تصمد الدولة الوطنية وأن تستمرّ الخدمات الإدارية والاجتماعية بفضل كفاءات هذا الوطن وأن يتواصل تدفّق الماء عبر قنوات الشركة التونسية للمياه وكذلك الكهرباء عن طريق الشركة المعنيّة وأن يستمر كذلك صرف الأجور والاستجابة ولو الجزئيّة للحاجيات الصحّية والتعليمية والأمنية للمواطنين، على أنّ جميع هذه الاستحقاقات المواطنية لا تحجب عنّا افتقار من تعاقبوا على الحكم للقدرة على المراكمة والإنجاز، لقد وقفوا على تخوم ضمان استمرار الدولة في جوانبها الشكلية دون المرور إلى تغيير واقع حياة التونسيّين نحو الأفضل وتحقيق أهداف ثورتهم في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية !
ولنتّفق بداية، أن هؤلاء الذين حكموا البلاد أخفقوا حتّى في صون استمرار الدولة في جوانبها الشكلية والإجرائية و”منجزها” القديم إن صحّ القول، فنسبة النمو صارت تحت الصفر والترقيم السّيادي لتونس في أسوأ حالاته والدّيون فاقت كل الأزمنة والبطالة جاوزت كل الحدود والخدمات اليوم تدمي القلب والبنية التحتية صارت تهدّد حياة الناس…
إنها أزمة مشروع وطني جديد لبلادنا ناتجة عن افتقار حكّامنا الجدد الذين لم يخرجوا صراحة من رحم الثورة بل ركبوا قطارها وهي تسير، افتقارهم للإرادة السياسية الوطنية الجريئة والكفيلة بتحقيق أهداف الثورة وهو ما تفطّن إليه اليسار التونسي منذ 2012 بالخصوص وسعى إلى محاولة تغييره عبر تأسيس الجبهة الشعبية.
وحتى لا يقال مرة أخرى أن الأمر يتعلق باليسار “الحالم” وبـ “جبهة لا” التي لا تريد سوى المعارضة سوف لن نتوقّف عند أطروحاتها وفصل الخطاب لدى زعمائها بل سنتوقّف عند بقية الأطياف السياسية والقطاعات المهنية والاجتماعية والهيئات المستقلّة والكفاءات الوطنية التي تقرّ جميعها، مثل الجبهة وحتى أكثر في بعض الأحيان، بغياب الإرادة السياسية لدى الحكومات المتعاقبة منذ 2011.
الأطياف السياسية والقطاعات المهنية والاجتماعية والهيئات المستقلة والكفاءات الوطنية تقرّ جميعها وحتى أكثر من الجبهة الشعبية بغياب الإرادة السياسية لدى الحكومات المتعاقبة منذ 2011
سياسيا، يكاد رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يصرخ هذه الأيام في وجه الائتلاف الحاكم لماذا التقصير في الالتزام بمقتضيات أحد أهم أبواب الدستور المتعلقة بالحكم المحلي والانتخابات البلدية فهل يعقل أن تعمّر نيابات خصوصية مؤقتة غير منتخبة ستّ سنوات في ديمقراطية ولو كانت ناشئة؟
بدوره، ها هو رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية يلوّح بالتمرّد على الحكومة ونشر قائمة شهداء الثورة على موقع الهيئة بعد أن سلّمها إلى الرؤساء الثلاثة منذ ديسمبر 2015، دون أن ننسى تعثّر مسلسل محاكمة المتّهمين والمتورّطين في أحداث الثورة.
والحديث عن المحاكمات أيضا يقودنا إلى الاتهامات التي يوجّهها رفاق الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي إلى الحكومات المتعاقبة بتعمّد طمس الحقيقة والتستر على المجرمين الحقيقيّين الذي وفّروا الغطاء السياسي للاغتيالات قبل أربع سنوات..
وها هي قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل المنتهية ولايتها تهبّ لنجدة منظومة الحكم باقتراح تحويل المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب إلى مجرّد حوار وطني حول الإرهاب نخشى في حال تبنّيه أن يقودنا إلى نفس مآل الحوار الوطني حول الأزمة السياسية في 2013.
إن المشهد السّياسي اليوم يعكس عجز من يضطلع نظريّا بأعباء الحكم على فرض هيبة الدولة واحترام القانون ووضع حدّ للمارقين والخارجين عن الدّولة، فأي معنى لأحزاب “قانونية” ضد القانون سوى كونها خزّان احتياط لمن هو في الحكم من جماعات الإسلام السياسي، وأيّ معنى لإعادة انتشار فلول التجمع المنحلّ في كيانات حزبية جديدة لو لم يكونوا بدورهم “ترسانة” انتخابية لمن يقود الائتلاف الحاكم الآن تحت يافطة الحركة الوطنية والبورقيبية التي لم يكونوا يجرؤون على الإصداح باسمها زمن من انقلب عليها؟..
أي معنى لأحزاب “قانونية” ضد القانون سوى كونها خزّان احتياط لجماعة الإسلام السياسي وأي معنى لإعادة انتشار فلول التجمع المنحل لو لم يكونوا بدورهم “ترسانة انتخابية” لمن يقود الائتلاف الحاكم
ولا يقف العجز عند هذا الحدّ، فملفّ الأملاك المصادرة لا يختلف عن بقية الملفّات، فهو عالق منذ صدور المرسوم الشهير في 2011، وتغيير الوزراء تارة وتغيير تسمية الوزارات تارة أخرى لم يجن منه التونسيون سوى الوعود الواهية إلى جانب “أملاك” مصادرة فقدت للأسف الكثير من قيمتها المادية بحكم مرور الزمن.
إن زمن الحكومات المتعاقبة شاهد أيضا على جنوحها لأيسر السبل لحلّ المشكلات الظرفية عبر مزيد الارتهان للخارج والخضوع للإملاءات وإغراق البلاد في الديون مع تفشي الفساد وزواج المصلحة بين الإرهاب والتهريب، ولعلّ أطرف ما يأتيه “أولاد” من هم في الحكم الاتفاق مع عموم التونسيين في أن مقاومة الإرهاب والتهريب ضرورة وخيار لا مفر منه والفساد يجب أن يتوقف والديون كريهة تهدّد مستقبل الأجيال القادمة، لكن بمجرد المرور للتصويت على مشاريع القوانين أو موازنات الدولة ترتفع الأصوات والأيادي بالتّأييد والتّبريك بحجّة أنه ليس بالإمكان أفضل ممّا كان.
وبالفعل، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن تعوزه الإرادة في القطع مع منوال التنمية القديم الذي نتّفق جميعا في حدوده وسلبيّته، وفي القطع كذلك مع الإفلات من العقاب، لا يمكن التعويل عليه في تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. والخشية اليوم هي في تأكيد الاستنتاج بأنّنا بصدد ثورة مضادّة فشلت في 2011 في إنقاذ النظام القديم وفشلت كذلك زمن الترويكا التي عملت على أخونة البلاد بين 2012 و2013 من خلال أخونة الثقافة والدستور والمدرسة والمجتمع والشارع والفضاء العام وبعده الاقتصاد، واليوم هي قائمة مع هذا الائتلاف اليميني الذي يحاول حصر الثورة التونسية في مظهر واحد ذو طابع سياسي دون حلّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي انتفض من أجلها التونسيّون، وحتى الإجابات السياسية لهؤلاء الحكّام “المتجدّدين” لم تعد مقنعة.
مراد علالة