منذ أن تأسّست وزارة الخارجية التونسية سنة 1956، وضُبطت مشمولاتها تحت الأمر عدد 1242 لسنة 1984 المؤرخ في 20 أكتوبر 1984، لم تتغير مهماتها وفقا لمتطلبات تطوّر الواقع والمجتمع والدولة والتحوّلات الإقليمية والدولية. لقد ظلّت وزارة الخارجية متكوّنة من جسم دبلوماسي تمثّله أساسا السفارات ومرفق عمومي تمثله القنصليات.
أمام تطور هجرة التونسيّين وتعقد المشاكل والمتطلبات، أخذت القنصليات على وجه الخصوص على عاتقها جملة من المهمات الخارجة أصلا عن مجال اختصاصها تحت عنوان الملاحق، مثل الملحق الاجتماعي والتربوي وغيرها من المهام المتعلّقة أساسا بالتونسيين بالخارج.
كما أنّ مشمولات وزارة الخارجية وفقا للأمر المخصص لذلك، لم تتضمّن مهمة بلورة مشاريع للتدخل الخاص بالتونسيين بالخارج كمهمة أساسية من بين مهماتها الأصلية. لذلك لم يعد ممكنا أن تتابع وزارة الخارجية التونسيين بالخارج لاتّساع رقعة تواجدهم، ولارتفاع عددهم، ولبروز أجيال ذات جنسيات مزدوجة من أبناء الجالية التونسية. وأمام أحقّيتهم كمواطنين في المساهمة في بناء تونس من موقعهم فإن مطالبهم بدأت تدريجيا تتلاشى إلى حد أنهم باتوا معزولين تماما عن الدولة، ونسبة هامة منهم عن المجتمع التونسي.
إن هذا الإشكال المرتبط بقيمة ومعنى مساهمة التونسيون بالخارج لم يكن خصوصية تونسية، وإنما شمل كافة الدول. لكنّ الفرق أنّ أغلب الدول الأوروبية وبعض الدول النامية مثل المغرب وجدت حلّا يتمثل في إعادة النظر الكلّى في العمل الدبلوماسي والإداري وأساسا بعث هيكل جديد يخصّ مواطنيها المقيمين خارج مجال ترابها.
الانقلاب التدريجي على مشروع المجلس الأعلى للتونسيين بالخارج
لقد تعدّدت المقترحات الخاصة ببعث إطار جامع يُعنى بالتونسيين بالخارج سواء فيما تعلق بمشكلاتهم واهتماماتهم أو بصياغة البرامج والتوجهات المستقبلية، ومن بينها كيفية تطوير مساهمتهم في التنمية بمعانيها المتعددة. ويعتبر هذا المطلب من بين أهم المواضيع التي طرحتها الأطر المنظّمة كالجمعيات والأحزاب أو عموم المواطنين التونسيين المقيمين خارج التراب التونسي من المهتمين بالشأن العام.
قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 برزت فكرة إنشاء وزارة خاصة لهذا الغرض، وكذلك مقترح مرصد وطني قار، كما تعددت مطالب التونسيين في شتى المجالات دون صياغة مشروع يمكنه أن يؤطّر تلك المطالب ضمن إطار شامل وفاعل. إلا أن فكرة تكوين وزارة تلاشت تدريجيا لعدم تطابقها وتطلعات الجالية التونسية التي ترغب في جسم تساهم فيه بفعالية مباشرة ويكون إطارا ممثلا لها عبر الانتخابات.
لقد تحوّل بعث هذا الإطار إلى أداة للتوظيف السياسي من قبل نظام بن علي، فلقد أصدر قانون عدد 55 لسنة 1990 مؤرخ في 18 جوان 1990 يتعلق بإحداث المجلس الأعلى للتونسيين المقيمين بالخارج. إلا أن هذا القانون لم يفعّل ولم تكن الغاية منه إحداث مؤسسة ديمقراطية وفاعلة، بل كان مؤسسة ذات صبغة استشارية تابعة لرئيس الجمهورية وبذلك اكتست الطابع الشكلي، إضافة إلى كونها كانت مشروع في ظل نظام دكتاتوري لا يسمح بالديمقراطية والتمثيلية الفعلية. واستمر الأمر على نفس نهج التهميش والمغالطة إلى حدود الثورة التونسية، حيث طُرح الموضوع بحدّة من قبل العديد من الجمعيات والمنظمات الديمقراطية الناشطة والمعروفة بتاريخها النضالي زمن الدكتاتورية.
لقد تبنّت كتابة الدولة للهجرة وللتونسيين بالخارج المشروع بعد الثورة وخلال فترة حكم الترويكا. لكن ومنذ البداية تبيّن أن تبنّي من أجل سحب البساط من المجتمع المدني وإفراغ المشروع من محتواه الأصلي أي التمثيل الفعلي للتونسيين بالخارج حيث أوكل كاتب الدولة للهجرة حسين الجزيري في أفريل 2013 إلى الأستاذة اعتدال بربورة مهمّة منسقة للمشروع وإعداد ملحق للمشاورات التي سبق إنجازها في موضوع المجلس الأعلى للتونسيين بالخارج.
لكن الأستاذة اعتدال بربورة قدّمت استقالتها في أوت من نفس السنة لوقوفها عند حقيقة عدم جدية الجهات الرسمية في مواصلة المشروع. لقد مارس حسين الجزيري سياسة التمويه عبر تنظيم ندوات ونقاشات مطوّلة دون نتائج عملية فكانت حصيلة تلك الندوات التفاف على المشروع الأصلي بدعوى أنه مشروع بديل صادر عن آراء الخبراء.
وأمام رفض القوى السياسية والجمعياتية بالخارج لمشروعه، أعاد حسين الجزيري طرح الموضوع من جديد لكن بنفس المنهجية حيث شكّل لجنة متكونة من السيد تيسير الصدي ومحمد عثماني وعصام العياري في ديسمبر 2013 للاستمرار في المشروع بدلا عن اعتدال بربورة، ومرة أخرى يصدر أعضاء هذه اللجنة بيانا في بداية سنة 2014 كرسالة تتضمّن أسفهم لعدم استجابة السلطة إلى مطالبهم بالإسراع في إتمام المشروع رغم وجود مقترح قانون في الغرض.
أما الجمعيات المهتمّة بهذا الموضوع فنظمت لقاءات وتحركات ميدانية من أجل تفعيل مقترحهم التاريخي في بعث المجلس الأعلى للتونسيين بالخارج.
المجلس الأعلى للتونسيّين بالخارج والخلاف حول مهامه الأصلية
إن المشروع المقدّم من قبل المكلفين من قبل كتابة الدولة للهجرة والذي تحوّل فيما بعد إلى مشروع نص قانوني، يعتبر من حيث المحتوى انقلابا حقيقيا على تصور أغلب الأطراف السياسية والجمعياتية التي ناضلت من أجل إرساء هذا المجلس. تبدو المنطلقات واحدة ولكن في الحقيقة هناك مشروعين مختلفين تمام الاختلاف شكلا ومضمونا. علما وأن مجموعة من الجمعيات بفرنسا أجرت نقاشات مع التونسيين بفضاء يسمى بـ “المجالس” لتحديد طبيعة المهمات الموكولة لهذا الإطار وتركيبته وصبغته القانونية.
في هذا الإطار يمكن ضبط أهم الخلافات مع مشروع كتابة الدولة وكتلة حركة النهضة ونداء تونس فيما بعد في النقاط التالية:
* أولا المهمات: لقد كانت المقترحات المقدمة من ممثلي السلطة تحوم حول مهمات منحصرة في الجوانب المطلبية وبالرغم من أهميتها فإنها تظل جزئية ولا تبرّر أصلا وجود مثل هذا الإطار.
* ثانيا، الهيكلة والتركيبة: لا يختلف المشروع في جوهره عن القانون الصادر سنة 1990 وهو الذي يحصر المجلس الأعلى كهيئة استشارية بيد رئيس الجمهورية من ناحية وتركيبته تتراوح بين التعيين وتمثيلية للجمعيات والشخصيات من ناحية ثانية مع غياب كلّي لمعنى الانتخاب المتصل بالمواطن.
* ثالثا، إطاره القانوني: لقد طالبوا بمجلس استشاري تابع للسلطة التنفيذية وخال من الصلاحية إلا الاستشارية منها مما يعنى أنه شكليّ منذ البداية. إضافة إلى غياب ضبط العلاقة بين هذا الإطار وبقيّة الأطر المتّصلة بذات الاختصاص.
إنّ المجلس الأعلى للتونسيين بالخارج الذي نناضل من أجل بعثه كإطار جديد، أولا، هو إطار منسجم والدولة الديمقراطية ذات السيادة والحافظة لكرامة مواطنيها أينما كانوا، إطار مستقل ديمقراطي فعلي وممثل للتونسيين بالخارج عبر انتخابات مباشرة لممثّليهم وتكون قراراته في مجال اختصاصه فعلية أي تقريرية وتنفيذية وليست استشارية كملحق لرئاسة الجمهورية أو السلطة التنفيذية.
وعلى هذا الأساس يكون هذا الإطار مبنيّ على أسس هيكلية تتميز بالمحتويات التالية:
* الاستقلالية: أي أن لا يكون ملحقا بإحدى المؤسسات الأخرى وخاصة التنفيذية منها وهو أمر لا يتعارض ومبدأ وحدة ومركزية الدولة والإدارة.
* الإدارة المركزية للمجلس والمجالس المحلية بالبلدان المختلفة لتواجد التونسيين تكون بالانتخاب وليس عن طريق التعيين.
* تحديد مجالات واختصاص المجلس الأعلى وبدوره يكون تقريريا في تلك المجالات والاختصاصات حتى لا يكون دوره استشاري شكلي ويتخذ قراراته بحضور ممثلي المؤسسات المتداخلة في الموضوع باعتبارهم أحد مكوناته إضافة إلى الأعضاء المنتخبين انتخابا مباشرا في الخارج.
* تعتبر الهجرة من وإلى تونس من بين مجالات واختصاص المجلس الأعلى لأنها متداخلة وموضوع التونسيين بالخارج لذلك، فإن توحيد الهجرة والتونسيين بالخارج في نفس الإطار ضروري.
ولهذا الإطار/المشروع من وجهة نظرنا ثلاثة أهداف كبرى:
إدارة أوضاع وشؤون التونسيين بالخارج من قبل ممثّلين منتخبين من بينهم ورسم سياسات مستقبلية على جميع الأصعدة بما فيها مساهمة التونسيين بالخارج في السياسة العامة للتنمية، مركزة موضوع الهجرة من وإلى تونس عبر المتابعة المباشرة ورسم السياسات الخاصة بذلك بكل استقلالية وخاصة ما يخص الوافدين على تونس من جنسيات أخرى بصفة الهجرة أو اللجوء وفقا للمعاهدات الدولية ووفقا لرؤية وطنية شاملة وبعيدة المدى وتوحيد كافة مداخل التعاطي مع ملف التونسيين بالخارج والهجرة من والى تونس في إطار موحّد وهو المجلس الأعلى للتونسيين بالخارج.