مرتضى العبيدي
تتعدّد السيناريوهات في الدّول الإفريقية، مهما كان حجمها أو موقعها من القارّة، لكن النتيجة هي نفسها: المحافظة على أنظمة حكم ديكتاتورية واعتبار الشعوب، بعد خمسين سنة وأكثر من الاستقلالات الشكليّة، غير جديرة بحياة ديمقراطية. وقد كنّا في مقالات سابقة تحدّثنا عن البلدان التي شهدت انتخابات رئاسيّة خلال سنتي 2015 و2016، مشيرين إلى أن القليل منها فقط شهدت انتخابات دون قلاقل أو دون طعن في نتائجها من هذا الطرف أو ذاك.
الانتخابات تُطيح بديكتاتور غامبيا
آخر هذه الانتخابات للسّنة المنقضية هي التي جرت في غامبيا يوم غرّة ديسمبر 2016. وتقع غامبيا في غربي إفريقية وهي عبارة عن قطعة أرض مستطيلة اقتطعها الاستعمار البريطاني من السينغال على طول النهر الذي يحمل نفس الإسم “نهر غامبيا”، بحيث لا تحدّها غير السينغال من كل الجهات التي تتقاسم معها 740 كلم من الحدود مع منفذ بحري على المحيط الأطلسي الذي يصبّ فيه النهر المذكور. فهي من أصغر البلدان الإفريقية إذ لا تتعدّى مساحتها 11300 كلم مربع ويتجاوز عدد سكانها بقليل المليون ونصف نسمة.
ومنذ إحرازها على استقلالها سنة 1965، لم تعرف غامبيا سوى رئيسين فقط: “داودا جاوارا” الذي يعتبر محرّر البلاد، والذي عيّنته بريطانيا عند انسحابها رئيسا لحكومة غامبيا تحت مظلّة العرش البريطاني، قبل أن يُعلن قيام الجمهورية سنة 1970 ويصبح أول رئيس لها إلى حدود 1994 حيث أزاحه ضابط شاب يُدعى “يحيى جمّاح” في انقلاب عسكري سنة 1994، وهو الذي حكم البلاد بالحديد والنار حتى تاريخ الانتخابات الأخيرة. وهي الانتخابات التي أمكن فيها للمعارضة الغامبية الموزّعة على ثمانية أحزاب أن تتفق على ترشيح منافس وحيد ليحيى جمّاح المنتهية ولايته، ألا وهو “آداما بارّو”.
الانتخابات وتبعاتها
وحال الإعلان عن فوز “آداما بارّو” الذي حصل على 45,5℅ من الأصوات مقابل 36,7℅ لجمّاح، بادر هذا الأخير بالإقرار بالنتيجة وتوجّه لخصمه الفائز بهذه العبارات عبر التلفزيون الرسمي: ” أنت الرئيس المنتخب لغامبيا، أتمنّى لك الأفضل”، مؤكدا أن هذه الانتخابات “كانت الأكثر شفافية في العالم”. لكنّه عاد بعد يومين أو ثلاثة للتشكيك في النتائج مطالبا بإعادة الانتخابات، لا في بعض المدن أو الأقاليم فحسب، بل في كامل البلاد التي دخلت منذ ذلك الحين في حالة من الاحتقان والاضطراب والخوف من الحرب الأهلية، فهاجر أكثر من نصف سكانها إلى السينغال المجاور وأصبحت معظم المدن بما فيها العاصمة “بانجول” مدن أشباح.
فنشطت الوساطات من دول الجوار للتوصّل إلى حلّ سلمي يحقن الدماء، واجتمع رؤساء دول “المجموعة الاقتصادية لدول غربي إفريقيا” التي تنتمي إليها غامبيا، فأوفدت رئيسي غينيا وموريطانيا إلى غامبيا في محاولة لإقناع جمّاح بتسليم السلطة للرئيس المنتخب، كما أنها قرّرت في مرحلة لاحقة تشكيل قوة عسكرية من سبعة آلاف رجل للتدخل عند الحاجة لجبره على المغادرة (علما وأن الجيش الغامبي لا يعد أكثر من 900 عسكري)، في إطار عملية أطلق عليها إسم “إعادة الديمقراطية” حصلت على الضوء الأخضر من المنتظم الأممي.
الاعتراف بالرئيس الجديد
ما إن أخذت الأمور في التعقّد حتى سارعت عديد البلدان الإفريقية وخاصة منها بلدان “المجموعة الاقتصادية لغربي إفريقيا” في الاعتراف بالرئيس الجديد للضغط على يحيى جمّاح وحمله على التخلّي سلميا. وفي الليلة الفاصلة بين 11 و12 جانفي، أمكن للرئيس المنتخب التحوّل خلسة إلى السينغال حيث انتظم يوم 15 جانفي بمقرّ السفارة الغامبية في داكار حفل أدّى فيه “آداما بارّو” اليمين الدستورية في انتظار التوصل إلى حل لهذا المأزق.
فعاشت البلاد أياما وليال من الرعب والخوف من المجهول، وشرعت القوات المشكّلة من جيوش سبع دول إفريقية في اجتياز الحدود، وهو ما جعل قائد الجيش الغامبي الموالي لجمّاح يعبّر عن إقراره بنتائج الانتخابات وولاء الجيش للرئيس المنتخب، وهو ما سهّل حينها مأمورية رئيسي غينيا وموريطانيا في حمل جمّاح على الرحيل واختيار منفاه، إذ عرضت عليه دول عديدة اللجوء إليها ومنها المغرب وموريطانيا وغينيا وقطر. وقد اختار في النهاية التوجّه نحو غينيا الاستوائية والاستقرار بها، تاركا مفاجأة رهيبة لخلفه الذي أُخبِر أن خزائن الدولة كانت خاوية، وقد كان المراقبون الذين واكبوا رحيل جمّاح عند منتصف ليلة 21 جانفي لاحظوا العدد الكبير من الصناديق الحديديّة التي كانت تُشحن على متن الطائرة الرئاسية دون معرفة محتواها.
تحدّيات بالجملة تنتظر الرئيس الجديد
هكذا يضيف هذا العمل الإجرامي صعوبات أمام الرئيس الجديد الذي يرث أصلا وضعا اقتصاديا كارثيا، إذ أن غامبيا التي يعتمد اقتصادها على قطاع فلاحي متخلّف، وعلى الصّيد البحري وشيء من السّياحة على ساحل المحيط، تعتبر من أفقر الدّول الإفريقية ويعيش أكثر من 60℅ من سكّانها تحت عتبة الفقر (أي بأقل من 1,25 دولار يوميا)، حسب تقرير صادر عن المنظّمات الأممية سنة 2014.
ورغم هذه التّركة الثقيلة، تعهّد “آداما بارّو” بإحداث القطيعة مع ممارسات 22 سنة من الديكتاتوريّة والفساد، وقال إنّه يملك فريقا لديه الخبرة اللّازمة لإخراج البلاد من الوضع الموروث. ووعد بإعطاء الأولوية إلى النهوض الاقتصادي حتى يكفّ الغامبيون عن الفرار من وطنهم في قوارب الموت بحثا عن حياة أفضل في أوروبا أو حتى في بعض البلدان الإفريقية. وقال مستشاروه أنّه يعتزم إلغاء بعض القرارات التي اتّخذها سلفه ومنها بالخصوص انسحاب غامبيا من المحكمة الجنائية الدولية، ومن الكومنولث، وإلغاء إعلان غامبيا “جمهورية إسلامية” الذي حصل بتاريخ 12 ديسمبر 2015 في خطوة مناقضة لدستور البلاد الذي ينصّ صراحة على فصل الدين عن الدولة.
فهل يكسب الرئيس الجديد هذه الرهانات، وخاصّة رهان الديمقراطية بجعلها ممارسة يومية بعدما كانت مجرّد شعارات تزيّن دستور البلاد؟