جيلاني الهمامي
بعد العرض الموجز لما جاء في وثيقة المخطط التي عرضت على مجلس النواب في اليوم الدراسي المشار إليه في العدد السابق من “صوت الشعب” نحاول في هذه العدد استقراء مضمون الوثيقة وأهم توجّهات المخطط وأهدافه وماذا ينتظر منه كنتائج على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وفي كلمة على مستوى التنمية الاقتصادية.
أول ما يمكن ملاحظته أن هذا المخطط لا يقوم على مفاهيم دقيقة وواضحة فيما يتعلّق بأهدافه، هل هو مخطط يركّز على النمو أم أنّه مخطّط للتنمية؟ فالواضح أن المخطّط يركّز أكثر على أهداف كمّية لفترة زمنية محددة (5 سنوات) ما يعني أنه مخطّط نموّ وبعيد كل البعد عن أن يرتقي إلى مستوى مخطط التنمية. بل أكثر من ذلك فإن أهدافه الأساسية هي إصلاح أوضاع المالية العمومية بمؤشرات كمية (تحسين نسبة النمو والتّخفيض من نسبة عجز الميزانية وعجز ميزان الدفوعات الخ …).
وبطبيعة الحال لا يتضمّن هذه المخطط، بالمواصفات والخصائص المذكورة، مقوّمات منوال التنمية المطلوب بقدر ما يُعيد إنتاج التوجّهات القديمة المعروفة والتي هي نفسها بعيدة عن أن تكون منوال تنمية بالمعنى الحقيقي للكلمة بصرف النظر عن طبيعته وإيجابياته أو سلبياته.
تونس تفتقر لمنوال تنمية حقيقي
يتفق الكثير من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع أن تونس تفتقد كما افتقدت من قبلُ طوال الستِّين سنة المنقضية لمنوال تنمية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فحتى في بعض الفترات التي حاولت فيها الحكومات التونسية صياغة منوال تنمية لم تتوفّق في ذلك واكتفت بجملة من التوجّهات والقرارات لا غير دون أن تتّبع منوال تنمية متكامل وشامل. ففي بداية الستينات مثلا اتّجهت الحكومة اتجاه التنمية “الاشتراكية الدستورية” واتّخذت جملة من القرارات في كيفية تنمية القطاع الصناعي والفلاحي والتجارة ووضعت أسس النسيج الاقتصادي التونسي ولكنها ولأسباب طبقية بحتة ظلّت متردّدة ولم تقطع إلا نصف الطريق وبشكل أدّى إلى نتائج عكسية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
أما في فترة الانتقال من الاقتصاد الموجّه إلى الليبرالية الاقتصادية في عهد نويرة فقد كان مقرّرا أن توضع خطة تنموية جديدة على أسس علمية وبناء على دراسة شاملة (دراسة المدن والتنمية – 1973) التي تضمنت تحليلا للمنظومة الاقتصادية والقطاعات الإنتاجية ووضعت اقتراحات للسياسات الجديدة بما في ذلك التهيئة الترابية وتنظيم المجال. وبما أنه لم يقع اعتمادها بصفة رسمية وعلنية لأسباب سياسية ولخلفيات جهوية وتعاطت معها الحكومة بصورة انتقائية عند تنفيذ السياسات وإنجاز المشاريع، لم تؤدِّ هذه الدراسة الوظيفة التي وُضعت من أجلها وضيّعت بذلك البلاد فرصة اعتماد منوال تنمية جديد متكامل كان يمكن أن يحقّق قفزة اقتصادية حقيقية. فنتيجة لهذا التطبيق الأعرج تطوّرت مجالات الاقتصاد التونسي (قطاعات وجهات) بصورة غير متكافئة بما أدّى في النهاية إلى استقرار فوارق كبيرة بين الأنشطة الاقتصادية وجهات البلاد، ومن هنا اتّخذت ظاهرة التهميش أبعاد أخرى.
وقد ساعدت سياسة اللهث وراء الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي المعولم في غياب مقوّمات المنافسة، في مرحلة أولى في ظلّ برنامج الإصلاح الهيكلي وفي مرحلة ثانية في إطار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، على تعميق هذه الاختلالات أكثر فأكثر وازداد النسيج الاقتصادي التونسي هشاشة. وحتى مقرّرات المخطط العاشر للتنمية بالاعتماد على الأنشطة الصناعية، لم يكن في الواقع غير ذرّ الرماد في العيون لأن الصناعات المقصودة (النسيج والصناعات الميكانيكية والالكترونية والغذائية الخ …) لم تكن في الحقيقة غير أنشطة مناولة صناعية وخدماتية برساميل صغيرة ومتوسّطة الحجم وضعيفة المردودية وغير ذات قيمة مضافة تذكر ولا طاقة تشغيلية ولا اندماج تكنولوجي.
لقد راهنت السياسة الاقتصادية في تونس طيلة التسعينات على التنمية التابعة لمراكز رأس المال وطلبات السوق الخارجية ولهثت وراء وهم الاندماج في السوق الخارجية واشتغلت على توفير عوامل تطوير القدرات التنافسية لمؤسّسات صغيرة ومتوسّطة أغلبها أجنبية استوطنت بلادنا هروبا من جحيم الأزمة في بلدانها الأصلية وبحثا عن الامتيازات القمرقية والجبائية والمالية والعقارية وغيرها.
هذه الخيارات كان لا بد أن تُدهوِر الاقتصاد المحلي وتقوّض مقوّمات نموه واستقراره علاوة على تعميق الهوّة بين الجهات وأساسا بين الساحل البحري الشرقي وداخل البلاد. هذه الفوارق التي شكّلت حضنا لفوارق طبقية وحالة واسعة من التهميش والفقر والبطالة أنتجت في الأخير ثورة 14 جانفي.
البلاد في حاجة إلى منوال تنمية جديد
إن المقاربة الواردة في وثيقة المخطط المعروضة الآن للنقاش في مجلس نواب الشعب مقاربة أكثر سوءا ممّا تمّ اتباعه حتى الآن. فهي تُعِيد إنتاج الأسلوب القديم الانتقائي من حيث الأولويّات والآليات والأهداف. وطالما لم يقع الإقلاع عن هذا المنطق فإن أزمة المالية العمومية، التي هي نتيجة وليست سببا في الأزمة الاقتصادية،وأزمة الاقتصاد المادي والمالي ستزداد حدّة واشتدادا حتى وإن تمّت السيطرة عليها جزئيا وبصورة مؤقّتة بمعالجات خاطئة مثل التداين أو التقشّف.
الحل الحقيقي على المدى المتوسّط والبعيد هو وضع تصوّر جديد ومغاير لمنوال التنمية والانكباب على بلورة محاوره التي يمكن حوصلتها في ثلاث محاور كبرى تتفرّع عنها محاور أخرى قطاعية وجهوية.
1 – إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي ويعني ذلك الخروج من فخّ الاقتصاد القائم على المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة ونمط المناولة في اختيار الأنشطة الاقتصادية ذات الأولوية. وفي هذا الصّدد لا بدّ وأن تلعب الدولة دور القاطرة الاقتصادية أي بلغة أخرى التعويل على التمويل العمومي للمشاريع الإنتاجية والمشاريع الكبرى في البنية الاقتصادية. وبصورة موازية لذلك وبناء على تطوير مناخ الاستثمار وتهيئة التراب يمكن عندئذ التّعويل على توسيع التراكم الرأسمالي وتوجيه الاستثمار الخاص ضمن خارطة أولويّات تضعها الدولة لتحقيق نسب نمو مرتفعة. وهذا يدفعنا للحديث عن الأولويات.
2 – الأولويات الاقتصادية والتي ينبغي أن تتركّز على القطاعات المنتجة لا على قطاعات السّمسرة والأنشطة الريعيّة غير المنتجة. ونقصد بذلك تطوير الصناعة في المجالات المتاحة بصورة مباشرة مثل الصناعات الكيمياوية وصناعة المواد الإنشائية والصناعات الميكانيكية والغذائية ثم وفي فترة لاحقة القطاعات الكبرى (الحديد والصلب والمكننة تصاعديا). وبصورة موازية لذلك، التركيز على الفلاحة وتصنيعها وتطوير أقطاب إنتاجيّة فيها لسدّ الحاجيات الثقيلة في الحبوب واللحوم الحليب والخضراوات وبعث مشاريع تحويلية لتطوير وتنويع الاستهلاك واستيعاب القيمة المضافة المنتجة لتنمية الاستهلاك والادّخار وتنشيط الدورة الاقتصادية ككلّ.
3 – مراجعة سياسة تمويل الاقتصاد وذلك بالتخلّي عن سياسة التداين والتعويل على المقدّرات الداخلية المهدورة، أي إعادة تنظيم الجباية وترشيد الواردات والمصاريف الإدارية وإعادة تنظيم القطاع المصرفي وتشجيع البنوك العمومية الكبرى الاستثمارية (لا البنوك التجارية المضاربة).
هذه هي المحاور الكبرى التي ينبغي أن يقع تنزيلها في خارطة تنفيذ متدرّجة على المدى المباشر والمتوسط فالطويل في مشاريع ملموسة وعلى أساس إعادة تنظيم المجال الترابي والتخلّي على منطق “أقطاب” الاندماج مع الخارج.