غريب أمر هذا الائتلاف الحاكم فحتى الأغلبية البرلمانية “المريحة جدا” لم ترحه الشيء الذي اضطره إلى اللجوء إلى نفس الأساليب القديمة التي لا يجيد غيرها حتى يعزز سلطته من خلال البلديات وهو ما يفسر موافقته أخيرا وبعد طول انتظار على تمرير القانون الانتخابي بعد أن قام بتعطيله مرارا وتكرارا.
توظيف المعتمدين الجدد لضمان نتائج الانتخابات
إذا بعد أن عمدت كعادتها إلى التضليل والمماطلة لربح الوقت ها أن حركة النهضة تقرر حسم النقطة الخلافية في القانون الانتخابي والمتعلقة بمشاركة الأمنيين والعسكريين في الانتخابات البلدية والمحلية. لقد عودنا الإخوان بهذا الأسلوب حيث يقومون بداية بوضع الحواجز وبتعطيل المسار لافتعال أزمة وخلق حالة انسداد ثم يأتون بالحل ليظهروا في صورة المنقذين معولين في ذلك على ترسيخ هذه الصورة الختامية للمشهد في أذهان الناس. لكن هيهات! لقد خبرهم التونسيون وخبروا أساليبهم الملتوية وألاعيبهم المبتذلة ومسرحياتهم السخيفة. فبعد أن هللوا وكبروا تكبيرا للعملية الانتخابية التي لا ولن يعرفوا سواها في المنظومة الديمقراطية صاروا يخشون هذه الآلية, الشيء الذي جعلهم يبتدعون التعلات الواهية حتى يتمكنوا من تأخير المصادقة على القانون الانتخابي للبلديات وبالتالي تأجيل هذه الانتخابات الهامة لأكثر من سنة لتتأجل معه معاناة ومآسي المواطنين. فبعد أن عطلت مجددا المشروع في جلسة يوم 24 جانفي الماضي أين توفرت كل شروط التصويت لحسم المسألة نهائيا بعد أن عطلته في شهر جوان 2016 حول نفس النقطة الخلافية, غيرت موقفها جذريا في غضون أسبوع, ربما لأن الجيش والأمن وكذلك نتائج الانتخابات أصبحت مضمونة. بغض الطرف عن جدوى هذه المشاركة من عدمها فإن الذي يهمنا هنا هو أسباب هذا التراجع السريع، وهنا يكمن بيت القصيد.
لقد استغل اليمين الحاكم هذه الفترة القصيرة لإعادة ترتيب البيت و”اهتدى” في الأخير إلى “الحل” لهذه المعضلة ألا وهو تنصيب معتمدين موالين طبقا للمحاصصة الحزبية والزبونية، ينتسب العديد منهم للمنظومة النوفمبرية واللوبيات المافيوزية عديمي الكفاءة. إنه أمر دبر بليل بما أنه لم يتم حتى اعلام الولاة بهذه الحركة المشبوهة، مما يؤكد مرة أخرى أن الائتلاف اليميني الحاكم يعمل دوما في الضبابية وفي الغرف المظلمة بعيدا كل البعد عن الشفافية التي تتطلبها مسألة حيوية كهذه تمس الشأن اليومي للمواطنين وتهدف إلى تأسيس اللامركزية والحكم المحلي وبالتالي الديمقراطية التشاركية التي يسعى بكل السبل إلى نسفها وتعزيز أركان ديكتاتوريته الناشئة.
مكر وخدعة هذا الائتلاف تكمن أساسا في وضع يده على النيابات الخصوصية عبر معتمديه الذين يحلون محل النيابات الحالية التي تٌحل قانونا قبل ثمانية أشهر موعد الانتخابات أي أنه سوف يعمل على ترتيب الأمور طيلة هذه المدة بواسطة هؤلاء الأعوان الطيعين. إنها عملية سطو في وضح النهار.
استعمال النفوذ والغش
لا نفهم هنا كيف تم اقصاء منظمات المجتمع المدني التي انخرطت في منظومة “وثيقة قرطاج” وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يقع تشريكه في اختيار قائمة المعتمدين. وكان الاتحاد قد دعا الحكومة في بيانه الأخير الصادر يوم 3 فيفري إلى مراجعة بعض التسميات كما عبر عن “استغرابه من بعض التسميات التي لم تعتمد فيها مقاييس شفافة ولم تراع الكفاءة والخبرة والدراية بمشاغل المواطنين بقدر خضوعها إلى المحاصصة الحزبية والولاءات الشخصية”.
إن تسليم السلطة إلى هؤلاء عديمي الخبرة والكفاءة والنزاهة سوف تزيد من تأزيم الوضع وتعميق مآسي المواطنين الذين يعانون الأمرين من النيابات الخصوصية المنصبة طبقا لنفس المقاييس. لقد لجأ اليمين الحاكم إلى هذه الخدعة الجديدة حتى يؤمن أكثر ما يمكن نتائج الانتخابات لأنه يدرك جيدا أنه بدون اللجوء إلى استعمال النفوذ وأجهزة الدولة والغش فإن حظوظه في الفوز تبقى ضئيلة وضئيلة جدا. هذا الاستنتاج المحبط والذي لم تستطع تفنيده أو حتى التقليل منه مؤسساته ل”سبر الآراء” فرضته عدة معطيات ميدانية أهمها اكتساح الجبهة الشعبية للبلاد بطولها وعرضها وكسبها ثقة واحترام وحب الناس لمصداقيتها ونضاليتها و ذلك بتبنيها لهمومهم والدفاع عن مصالحهم بوفاء وعزيمة واصرار. هذا ما يخيفهم لأنهم يعلمون علم اليقين أنه إذا ما تمت الانتخابات بصفة شفافة ونزيهة فإنهم سوف يتكبدون بكل تأكيد خسائر جسيمة خصوصا وأنهم واعون بتقلص قاعدتهم الانتخابية بشكل كبير نتيجة سياساتهم اللاشعبية واللاوطنية والتي تسببت في أزمات حادة على كافة الأصعدة خصوصا منها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتي تعصف بالبلاد وتعمق من جراحها من سنة إلى أخرى وتدفعها نحو المجهول. فحركة النهضة بدأت في فقدان رصيدها الانتخابي منذ سنوات حكمها في اطار “الترويكا” التي خلفت دمارا شاملا وازداد هذا الرصيد تآكلا مع افتضاح أمرها بخصوص علاقتها بالإرهاب وذلك من خلال دفاعها بشراسة على ما يسمى ب”قانون التوبة” لتمنح بذلك صك الغفران للإرهابيين العائدين من بؤر التوتر وتعتم على ملف شبكات التسفير. أما حليفتها حركة نداء تونس المجزأة والتي تسير في طريق الاندثار فلقد اتضح بالنسبة لأولئك الذين منحوها ثقتهم أنه ليست لديها مقومات الأحزاب بل أنها لا تعدو أن تكون اطارا لإعادة رسكلة التجمعيين والفاسدين والمتمعشين زمن النظام البائد كما يتبين ذلك من خلال قانون المصالحة الاقتصادية والمالية, هذا علاوة على خيانتها لوعودها الانتخابية المتمثلة أساسا وكما نعلم جميعا في حث ناخبيها على “التصويت المفيد” حتى تضمن إقصاء حركة النهضة التي تبين فيما بعد أنها شريكة استراتيجية لها في السلطة.
حتمية المسار الثوري
كل هذا أصبح بينا بالنسبة للرأي العام الوطني مهما تفننوا في التمويه وفي التعتيم على الحقائق حيث بات جليا أن الجبهة الشعبية تمثل للائتلاف اليميني الحاكم رقما صعبا تقض مضجعه وتحول أحلامه إلى كوابيس. إنه يريد انكار أن الأغلبية متحركة حسب متغيرات الواقع وأن البوصلة في ذلك هي حركة الجماهير التي تتجه صوب أهداف الثورة. قد يستطيعون تزوير الأصوات عبر أجهزة السلطة التي يسيطرون عليها لكن ليس باستطاعتهم تزييف الارادة الشعبية. لقد كان ذلك ممكنا فيما مضى لكن لم يعد الأمر كذلك لأن التونسيين أصبحوا متفطنين إلى أساليبهم الخسيسة والمبتذلة وحتى إن استعملوها مجددا وهذا الأرجح بما أنه ليس لديهم بديلا يقدمونه فإنه لن يكون “ناجعا” ولن يجني لهم الكثير كما في السابق لأنه علاوة على أن الناخبين تعرفوا خلال هذه السنوات عن حقيقتهم فإن المسألة مختلفة تماما عن سابقاتها أين كان الشأن سياسيا بحت بما أن هذه المرة تتعلق الانتخابات بتنظيم وادارة حياتهم اليومية.
إن المسار الثوري لا تتحكم فيه قوى الثورة المضادة ولا تروضه نقاشات وأحكام البرلمان لأن النبراس هنا هو القيم والمبادئ التي صممتها ورسمتها الأجيال المتعاقبة من المناضلين وبالتالي فإن الجماهير الشعبية وقياداتها الثورية هي من تقوده والشارع يبقى اطاره الوحيد. وهذه القيادة هي بكل تأكيد الجبهة الشعبية التي أكدت على لسان ناطقها الرسمي حمة الهمامي أنها سوف تنفتح على جميع القوى التقدمية والديمقراطية لخوض هذه المعركة الانتخابية المصيرية التي سوف تكون على جبهات عدة: التصدي للمال والاعلام والمليشيات وكذلك… الهيئة العليا للانتخابات التي عودتنا على تصنيف تجاوزات خطيرة ,على غرار اخراج صندوق الاقتراع من المركز لإفراغه تماما وتعويض البطاقات الانتخابية التي يحتوي عليها بأخرى, ضمن قائمة الأخطاء الغير مؤثرة على النتائج النهائية للانتخابات.
على الجبهة إذا تنظيم صفوفها من الآن والعمل على الاسراع بالتنسيق مع هذه القوى حتى تتمكن من التصدي إلى هذه المؤامرة الجديدة من طرف القوى الرجعية التي لن تفلح في نهاية الأمر في مسعاها مهما فعلت. فلتعلم أنه شتان بين من يختار طريق الثورة سبيلا والنضال من أجلها بالعزيمة والإيمان بمبادئها وقيمها وبين من يفترش المكيدة والخدع والغدر والخيانة ويتغطى بالكذب والتزلف والنفاق حتى يجهض عليها. فالثورة نهج الأحرار والأحرار هم الذين ينتصرون دوما في آخر المطاف. ذلك ما علمنا التاريخ…
فوزي القصيبي