ينظر مجلس نواب الشعب في المدّة القادمة في مشروع قانون للتصدي للعنف المسلط على النساء، وهو مشروع قانون يتكون من 23 فصلا تتوزّع على خمس أبواب (الأحكام العامة، في الوقاية والحماية من العنف ضد المرأة، في جرائم العنف ضد المرأة، في الإجراءات والخدمات والمؤسسات، أحكام ختامية)، وفي انتظار بلورة قراءة متكاملة حول هذا المشروع الذي عملت القوى الديمقراطية أحزابا ومنظمات وجمعيات على ضرورة إيجاده حتى تتعزّز التشريعات المحلية في أفق ديمقراطي، ومن أجل إحباط مساعي القوى الماضويّة على التصدّي للتشريعات ذات المضمون التقدّمي بطرق مختلفة.
العنف ضد النّساء ينتشر ويتنامى
قبل التعمّق في مظاهر الظاهرة في بلادنا يجب تدقيق المفهوم، وهو ما يشتغل عليه الفصل الثالث من مشروع القانون في مطّته الثالثة، حيث ورد:
-“العنف ضد المرأة: كل اعتداء مادي أو معنوي أو جنسي أو اقتصادي ضدّ المرأة أساسه التّمييز بسبب الجنس والذي يتسبب بإيذاء أو ألم جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة ويشمل أيضا التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان من الحقوق والحريات، سواء في الحياة العامة أو الخاصة”.
هذا وتتولّى المطّات الموالية تعريف أشكال العنف الأربع المذكورة سلفا وهي العنف المادي، العنف المعنوي، العنف الجنسي، والاستغلال الاقتصادي، علما وأن هذا التعريف المكثّف يمكن اعتباره أكثر دقّة من التعريف الوارد في الإعلان الأممي لسنة 1993 حول القضاء على العنف ضد النساء، الذي عرّف العنف بكونه:
“كل عمل عنيف قائم على النوع الاجتماعي تنجرّ عنه أو يمكن أن تنجرّ عنه معاناة بدنية أو جنسية أو نفسية بما في ذلك التّهديد والإكراه والسلب غير المبرر للحريات سواء وقع ذلك في الدائرة العامة أو الخاصة”.
وإذا اعتمدنا الأنواع الأربعة التي يشير إليها التعريف الوارد في مشروع القانون، فإن المؤشّرات والمعطيات تؤكّد بكل وضوح الانتشار المرعب، بل التّنامي الكبير لهذه المظاهر مجتمعة، فقد ورد في دراسة أنجزتها “لجنة المرأة العاملة” التابعة لاتحاد الشغل والمنشورة في مارس 2015، أن نصف نساء تونس تعرّضوا لعنف ما ولو مرّة واحدة في حياتهنّ، وأشكال العنف تتوزّع بين الأكثر شيوعا والأكثر غرابة، فقد جاء في هذه الدّراسة أن 32% من النساء تعرّضن للعنف المادي مثل الصّفع واللّكم وصولا إلى الخنق والحرق، وأن 28،9% تعرّضن للعنف المعنوي والنفسي، وهو ما يؤكّده المعجم العامّي الشائع الذي يحفل بدرجة فضيعة من الاحتقار والاستنقاص والنّظرة الدّونية للمرأة كنوع.
أما العنف الجنسي والمقصود به الاستغلال الجنسي أو الاغتصاب أو فرض إقامة علاقة جنسيّة دون رغبة، بما فيها من قبل الزوج، أو فرض وضعيّات جنسية مهينة وتحطّ من الكرامة، فإن 15،7% من النساء كنّ ضحية لهذا النوع من العنف.
ويأتي في المرتبة الأخيرة العنف الاقتصادي الذي يتجلّى في أشكال الاستغلال الأكثر وحشيّة التي تتعرّض لها النساءُ كنساءٍ، في مختلف الأعمال والأنشطة الاجتماعية، الصّناعية والفلاحية وفي مختلف القطاعات الأكثر إرهاقا وإهانة وصعوبة والأقلّ أجرا وتهديدا وخطورة. إضافة إلى الحرمان من المال أو الرّاتب أو مراقبة التصرّف فيه، وهو ما يشمل 7%.
هذا وقد انتهت الدّراسة إلى أن المصدر الأول للعنف هو الزوج حيث أن 48% من حالات العنف المادي و69% من حالات العنف المعنوي و78% من حالات العنف الجنسي والاقتصادي، كلّها مصدرها الزوج الذي من المفروض أن يكون الأقرب إلى إسناد المرأة لا اضطهادها.
كما تتعرّض المرأة للاضطهاد من قبل العرف وخاصّة في القطاع الخاص، فـ27% من العاملات في هذا القطاع تعرّضن للطّرد بدواعي مختلفة. هذا وتنحدر النساء ضحايا العنف من الوسط الاجتماعي المفقّر والمحروم بنسبة 73%، والبقية، أي 23%، من الوسط الغني.
كما أشارت الدراسة إلى استفحال نوع جديد من العنف بدأ في الظهور والاستفحال بعد الثورة وهو العنف ذي الخلفية الإيديولوجية الظلامية بأشكاله المختلفة سواء منه الرمزي أو المادي بمقتضى الخلفية التحقيريّة للمرأة التي تعتبر “عورة” يجب إخفاؤها بالحجاب والنّقاب وفي البيت حيث تتعرّض للامتهان والإهانة والحرمان من أبسط الحقوق، علما وأن الأوساط الإرهابيّة تورّطت في تسفير نساء لبؤر التّوتر لتقديم “الخدمات الجنسيّة” تحت مسمّى “جهاد النكاح”.
إن هذا الواقع الأليم الذي تعيشه المرأة في كلّ الأطر والفضاءات، يشكّل دافع قويّ لضرورة اتّخاذ جملة من الإجراءات للتصدّي للظاهرة، ومن بينها إيجاد التّشريعات اللّازمة للحماية والوقاية وتتبّع الجرائم المرتكبة على خلفيّة النوع.
القانون واجهة من واجهات التصدّي للظاهرة
إن التصدّي لظاهرة التّمييز بسبب الجنس تتنزّل ضمن مقاربة شمولية تتداخل فيها الإجراءات القانونية مع الإجراءات الاجتماعية، فضلا عن تثوير العقليّات السائدة في أفق غرس مفاهيم المساواة والمواطنة. إن نضال نساء تونس ورجالها ضد واقع التّمييز هو نضال عنيد وبدأ منذ عقود، ويعتبر جانب العمل من أجل تشريعات جديدة تحمي النساء واجهة أساسية طالبت بها وناضلت من أجل إيجادها الحركة الحقوقيّة والنسائية والنقابيّة والسياسية الديمقراطية والتقدميّة.
إنّ القوانين لن تغيّر الواقع، لكنها ستكون محفّزا للنساء للدفاع عن حقوقهن وفرضها على أرض الواقع، وستشكّل إطارا لحماية الحقوق وصيانتها، هذا وقد شمل مشروع القانون مختلف الأوجه التي تتعرّض فيها حقوق النساء للانتهاك، إضافة إلى مراجعة بعض فصول المجلّة الجزائية فيما يخص بعض الجرائم التي تكون النّساء ضحيّتها مثل التحرّش والاعتداءات الجنسيّة، وكذلك التّمييز في الأجر.
إنّ المشروع إيجابي في مجمله وهو لصالح النساء، لكن بعض التدقيقات تظلّ أساسية فيه حتى يكون بحقّ ثورة في مجال التشريع، واستجابة لاستحقاق ديمقراطي ناضلت من أجله أجيال من الديمقراطيات والديمقراطيين.