“لم يعد ظهور وزراء “المطافئ” بعد التعلّيمات والمناشير المثيرة للجدل، يشفي الغليل والأغرب إصرارهم دون غيرهم على الدفاع على “حكومة الوحدة الوطنية” رغم إدراكهم مثلنا أنهم ضعيفو السند”
“مقولة “استمرار الدولة” تفرض على لاعبها أن يتحمّل وزر الاستمرارية بخلاف ما نراه من ركوب على “الإنجازات” إن وجدت، والتنصّل من الالتزامات إذا فرضت نفسها وفرضها التوانسة”
شهد شاهد من أهلها… لم نطمئن يوما إلى استطلاعات رأي بعض الجهات التي احترفت التّماهي مع السلطان كما يقال وتوزيع نِعَم التأييد والمعارضة والرّجم بالغيب وتقمّص زيّ الكهنة للتبشير أو التّشهير بهذا وذاك، لكنّنا اليوم نتوقّف عند واحد منها لِمَا وجدنا فيه من تطابق قد يكون عفويّا أو غير عفوي بين باعث الاستطلاع أو الباروميتر السّياسي لشهر فيفري 2017، وما يشعر به “التّوانسة” الذين هم جديرون بحياة أفضل… الباروميتر تفضّل بتبشيرنا بأن 68 بالمائة، أي الأغلبية الساحقة من التونسيين، يرون أن بلادهم تسير للأسف في الطريق الخطأ… ومن المفارقات أيضا أن نفس الجهة تؤكّد لنا أن نفس هؤلاء التونسيّين يرغبون في أن يكون للشّخصيات السياسية الشريكة والمسؤولة عن السّير في الطريق الخطأ، مستقبل سياسي!
ليس ذلك فحسب، يروّج “باعث” الاستطلاع لوجود شَبَه كبير بين التوانسة والسويديّين، أجل الأصدقاء في السّويد الذين يعتبرون بدورهم أن بلادهم تسير في الطريق الخطأ دون أن يكلّف نفسه عناء توضيح الطريق وإن كان المقصود طريق الاندماج الأوروبي أو وضع الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان أو الاستحقاقات الاجتماعية في التشغيل والتنمية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وهي شعارات الثورة في تونس، ولا نخال أنها نفس تطلعّات وشعارات السويديّين خصوصا عندما نكتشف في نفس اليوم الثلاثاء 7 فيفري 2017 تخفيض الترقيم السيادي لبلادنا للمرّة الخامسة منذ ملحمة 14 جانفي 2011 من قبل وكالة فيتش الدولية للترقيم بخلاف الدولة الأوروبية التي وقع توظيفها للمقارنة والمغالطة والتمويه.
إن الائتلاف الحاكم بمكوّناته وأساسا حزبيه “الكبيرين” وكذلك أدواته و”ماكيناته” الدعائية والتجميليّة بمن فيهم ذاك “المسؤول” الذي تطوّع للغشّ باستعمال يديه “النظيفتين” لإيصال الكرة الحديدية التي فشلت وزيرة الشباب والرياضة في وضعها في الهدف، وذاك “المسؤول” الذي اجتهد في إعداد الرخامة التذكارية لساحة الشهيد شكري بلعيد لحقوق الإنسان فتحوّل اجتهاده إلى مصيبة أغضبت رئيس الجمهورية وفق مستشاريه الذين بشّرونا بتغييرها حتى تتناسب الأسماء مع المقامات والسياقات، هذا الائتلاف يزرع فينا التشاؤم يوما بعد يوم، بل كلّ ساعة نكتشف فيها عمق المغالطات وعمق الإبحار ضدّ التيار وضد أهداف الثورة.
وحتى وزراء “المطافئ” لم يعد ظهورهم على قلّته بعد تعليمات رئيس الحكومة ومناشيره المثيرة للجدل، يشفي الغليل والأغرب من ذلك إصرار هؤلاء الوزراء دون غيرهم على الدفاع على حكومة الوحدة الوطنية رغم كونهم يدركون مثلنا أنهم بوصفهم وزراء ضعيفي السّند لن يفلحوا في تغيير تقييمات التونسيّين والتونسيات الذين يريدون حكّاما يغيّرون واقعهم نحو الأفضل ولم تعد تقنعهم الخطب والوعود الواهية وفوق كل ذلك المغالطات.
ومن أطرف هذه المغالطات اليوم إيهام النفس بأن الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل قادرون على الظفر بالمسكن الاجتماعي الأول الذي يدور فلك ثمنه بين 150 و200 ألف دينار، والحال أن الأجور لا ترتقي إلى هذا السّقف علاوة على أن البنوك التونسية ومن منطلق تجاربنا الشخصية بعيدة كل البعد عن تلبية هذا الاستحقاق الاجتماعي، وإن فعلت ذلك فمن خلال تكبيل المقترضين بفوائض كبيرة ومصاريف ثانوية أكبر تحت عناوين التأمين ودراسة الملف والفحص الطبي وبطبيعة الحال علكة “ارجع غدوة” مقابل إنقاذ حفنة من الباعثين العقاريّين على حدّ قول رئيس لجنة المالية منجي الرحوي…
وكما نبّهنا سابقا، لم يبتعد الائتلاف الحاكم عن لعبة توظيف مقولة “استمرار الدولة”، وهي لعبة خطيرة تفرض على لاعبها أن يتحمّل وزر الاستمرارية بخلاف ما نراه من ركوب على “الإنجازات” إن وجدت، والتنصّل من الالتزامات إذا فرضت نفسها وفرضها “التوانسة” بالاحتجاج والصّمود. وليس أطرف للتّدليل على ذلك ممّا جادت به قريحة وزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي في ردّه على المعتصمين في القصبة من العائلات المعوزة التي تطالب بتطبيق تعهّد سابق لحكومة الحبيب الصيد التي خرج منها رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد وبعض وزرائه أيضا، وذلك بتشغيل واحد عن كل عائلة.. هنا فاجأنا عبيد البريكي بأن الحكومة لا تمتلك تعريفا للعائلة المعوزة !
ونفس الشيء حصل مع ملف المفروزين أمنيا، شباب من خيرة ما أنجبت تونس، تربّوا في مدرسة الاتحاد العام لطلبة تونس وتعهّدت لهم الدولة قبل عام بمعالجة مظلمة تاريخية تعرّضوا لها زمن الدكتاتورية والدولة البوليسية، وللأسف تلكّأت حكومة “الوحدة الوطنية” اليوم من مقولة استمرار الدولة وفرضت على هذا الشباب الذي تربّى على التضحية والشجاعة أن يلوذ إلى العصيان والتمرد في الشوارع والساحات والدخول في إضراب عن الطعام حتى تحقيق مطالبه المشروعة.
والأمثلة كثيرة على وهن الائتلاف الحاكم وعجزه في رفع الصدأ عن المنظومة و”الماكينة” فهل يعقل في دولة قانون ومؤسسات، دولة فيها حكومة ثورة وحكومة وحدة وطنية أن تصدر نتائج مناظرة وطنية لانتداب زهاء 100 شاب من معتمدية المكناسي للبدء في استغلال منجم للفسفاط هناك وتمرّ الأيام والأسابيع والأشهر ولا يحرّك أحد ساكنا فيضطرّ أهلنا إلى إعلان العصيان والتمرد؟
لقد مرّ شهر جانفي بسلام كما قال الوزير المكلف بالعلاقة مع مجلس نواب الشعب إياد الدهماني “السعيد” بعدم تحقّق رغبة “بعض الأطراف” في انفجار الأوضاع، لكن سعادته وسعادة التونسيّين كان بالإمكان أن تكون أكبر لو فسّر لنا أسباب هذا الاحتقان الذين يضرب أكثر من قطاع وجهة ومهنة. فالأطبّاء في الشوارع وقبلهم القضاة وبعدهم سيكون المربّون وغيرهم علاوة على الشّباب العاطل عن العمل والمطالب بالحق في التنمية في مختلف الجهات في ربوع الوطن..
في غضون ذلك يبرهن لنا “رموز” الائتلاف الحاكم عن العجز وانعدام المسؤولية ويغذّون التشاؤم في قلوب وعقول التونسيّين. فما معنى أن يكتب الوزير السابق والنائب بمجلس نواب الشعب عن حركة النهضة الحاكمة عبد اللطيف المكي “سمعت تشخيصا لعدد من الخبراء والأكاديميّين حول الوضع الاقتصادي أزعجني جدا، إذ قال أحدهم إننا بدأنا ندخل السيناريو اليوناني وقال الآخر إن الدولة في حالة إفلاس غير معلنة”. ويضيف “أنّ النهوض باقتصاد تونس بيد السياسيّين وأنه لا بدّ من حكومة تتبنّى الخيارات الوطنية المطلوبة على أرضية الثورة وأهدافها وصياغة منوال تنمية جديد”. أليس كلام المكّي مؤشّر عن وجود ثورة مضادّة تهدّد تونس التي تحكمها النهضة بالاشتراك مع النداء؟
أضف الى ذلك عبث جماعة نداء تونس بشقوقه المختلفة، عُقل وتحجير وشكاوى منشورة أمام القضاء واتّهامات خطيرة واعترافات أخطر بوجود “توافق مغشوش” غذّته التعيينات الأخيرة في سلك المعتمدين التي كشف الندائيّون أنفسهم قبل المعارضة وقبل اتحاد الشغل أنها تمّت على حساب الكفاءات الإدارية والسياسية وحمّلت رئيس “حكومة الوحدة الوطنية” أبن النداء مسؤوليّة خضوعه للابتزاز وتوظيف التعيينات للاستقواء بأجهزة الدولة في الخلافات الحزبية. ليس ذلك فحسب، شقّ شرع في الإعداد للانتخابات البلدية مع مرزوق والرياحي وآخر يصرّ على دخولها وحيدا أسوة بالأب المؤسّس..
إن الكلام على الكلام صعب… هكذا قال أبو حيان التوحيدي قبل قرون، لكن قبل أربع سنوات قال شهيد الوطن شكري بلعيد : يا توانسة فيقوا، تونس الجديدة ممكنة.