يعتبر قطاع الفلاحة قطاعا اقتصاديّا محوريّا، بل هو المحرّك الأساسي في خلق الثروة، وبالتالي في عمليّة التنمية وتوفير إمكانيات تشغيليّة هامّة. وهو لهذه الأهمية يستوجب من كلّ الفاعلين أن يولوه الأهمية التي يستحقّها.
غير أنّ الملفت للانتباه، هو ما بات يشهده هذا القطاع من تهميش لفائدة قطاعات خدماتيّة هشّة غير قادرة على حلحلة الأزمة العامّة والخانقة التي تشهدها البلاد، وهي تتفاقم اطّرادا مع مزيد تخبّط الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
“صوت الشعب” التقت الكاتب العام للنقابة الجهوية للفلاحين بالقيروان السيد عمر السلامي وكانت له رحابة الصّدر للتفاعل مع أسئلتنا حول مشاكل هذا القطاع.
س: لا يخفى على أحد تعدّد وتنوّع مشاكل قطاع الفلاحة. لو تؤطّر لنا هذه الإشكاليّات؟
ج: مشاكل القطاع الفلاحي ليست عرضيّة، بل هي مزمنة ولم نلمس مساعي جدّية لمعالجتها. هذه المشاكل ازدادت تفاقما خلال الثورة بتراجع دخل الفلاحين وغياب الأطر التي تعبّر عن مشاغل وهموم الفلاحين.
السلطة مثلما جرى في السابق تدفع الفلّاحين إلى الارتباط بالاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري، الأداة السياسية للسلطة التي تفرض من خلالها برامجها وخياراتها صلب القطاع. وما كان يقوم به نظام بن علي في السابق تقوم به اليوم النهضة والنداء. الحكّام الجدد يتجاهلون مطلب الحوار مع نقابة الفلاحين، فطبيعي أن يكون الفلاّحون مغيّبون عن هذا الحوار.
من جهة أخرى، الملفات الكبرى للقطاع (وضعية الأراضي الدولية، مشاكل المياه والتغيرات المناخية، التوريد العشوائي والتهريب..) لم تعالج بل ازدادت تعقيدا، فالسلطة تسعى دوما لإرضاء المستهلك على حساب المنتج.
س: في السنوات الأخيرة طرحت بقوّة مسألة الأراضي الدولية. ماهي أهمّ القضايا التي تعلّقت بها؟
ج: وقع التراجع عن تعاضديات الإنتاج الفلاحي التي تمّ إنشاؤها في الستّينات والتفويت فيها إلى جانب ديوان الأراضي الدولية لفائدة شركات الاحياء بداية من التسعينات لصالح الخواص على قاعدة المحسوبيّة والولاء السياسي.
خلال الثورة شنّ الفلاحون هجوما على شركات الإحياء التي تم استرجاعها لفائدة ديوان الأراضي الدولية. حتّى أنّ الترويكا عندما حاولت إعادة توزيع الأراضي على الخواص بنفس العقلية القديمة وجدت معارضة كبيرة ولم تنجح في ذلك.
وقعت استشارة وطنية بخصوص هذه الأراضي شاركت فيها نقابة الفلاحين وطالبنا بتوزيع الأراضي الدولية على شركات تعاونية تتكون من الفلاحين ومن المتخرجين من الجامعات لفتح آفاق التشغيل وذلك على سبيل الكراء، علما وأنّ الشركات التعاونية تقوم على الاقتصاد التضامني الاجتماعي وخدمة الفلاحين وهي أساسا شركات تنموية على عكس شركات الاحياء ذات الصبغة التجارية الربحية، إلى جانب إعادة النظر في القوانين والآليات التي مكنت الشركات من التفريط في الأراضي.
وإلى اليوم، مازالت الأمور تراوح مكانها.
س: حسب رأيكم كيف السّبيل لمعالجة مشاكل المياه والتغيّرات المناخية؟
ج: أغلب الدراسات تؤكد وتجمع على أن تونس ستعيش أزمة مياه بسبب نقص مياه الأمطار المرتبط أساسا بظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية. هذه الأزمة ستبدأ سنة 2020، ومن مظاهرها نقص كميات الامطار الى حدود الـ 50 بالمائة، ارتفاع درجة الحرارة ممّا سيؤثّر سلبا على القطاع الفلاحي بصورة عامة والأمن الغذائي على وجه التحديد.
ورغم هذه المخاطر الجدّية، فإن السّلطة لم تبحث عن الحلول الجدّية المستندة إلى البحث العلمي، بل سعت إلى الضغط على الفلاحين بعدم تمكينهم من كهربة الآبار والحصول على رخص التنقيب عن المياه، وكأن الفلاحين هم أصل المشكل والمتسبّبون في تبذير المياه.
نحن في نقابة الفلاحين نرى من الضروري أنّ المعالجات الضرورية العاجلة والممكنة هي تحلية مياه البحر، التركيز على الزراعات التي لا تتطلّب كميات كبيرة من المياه والعمل على توجيه وتأطير الفلاحين في هذا الاتجاه.
وعلى سبيل المثال هناك طفرة في إنتاج الطماطم التي تستهلك كميات وافرة من المياه سواء أثناء الإنتاج أو التحويل، وفي المقابل فإن القطاع الفلاحي لا يستفيد من عائداتها، حيث يقع تصدير كميات كبيرة للخارج دون تحقيق مداخيل ذات قيمة من العملة الصعبة للدولة أو مردود مالي هام لفائدة الفلاحين، على عكس زيت الزيتون مثلا الذي يستهلك كميات أقل من المياه ويعطي عائدات مالية هامة.
من الحلول أيضا الظرفيّة، رفعته السلطة كشعار دون أن تجسّده إلى حد الآن ويتمثل في ربط سدود الشمال بسدود الوسط لتحويل فائض مياه الشمال نحو ولايات الوسط والجنوب. لقد شرعت في إعداد دراسة عن طريق مكتب ألماني يتكلف الخزينة العامة للدولة 4 مليارات ونصف من الملّيمات دون الرجوع إلى دراسة سابقة أنجزت خلال عهد بن علي. الدراسة ستقدّم في 2018، وعمليّة ربط سدود الشمال بالوسط ستستغرق الكثير من الوقت وقد لا تنتهي قبل سنة 2050، وهو ما سيضاعف الأزمة في تقديرنا، واحدة في الشمال وأخرى في الوسط.
من الحلول الهشّة أيضا اعتزام الدولة إحداث 40 محطّة تحلية متنقّلة، بينما ترى النقابة أن البلاد بحاجة إلى مشاريع كبرى تعتمد الطاقة الضوئيّة وتستجيب لمواصفات العصر مع إنجازها على مراحل على غرار الحلول المتّبعة في الشقيقة المغرب.
س: لا يمكن أن نتحدّث عن مشاكل القطاع الفلاحي دون الحديث عن التّوريد العشوائي والتّهريب. لو تبسط لقرّاء جريدة صوت الشعب حقيقة هذه الظاهرة؟
ج: هناك غياب لآليّات علمية لتحديد الصابة في مختلف مجالات الإنتاج (الاعتماد على المعهد الوطني للإحصاء والمندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية) وبالتالي فإن الإحصائيات غير دقيقة والدولة لا تتوفّر على معطيات واضحة ولا تمتلك تصوّرا واضحا لمجابهة نقص الإنتاج.
أحيانا تمكّن الدولة المورّدين من رخص توريد رغم توفّر الكميات الضرورية للاستهلاك المحلي فيقع إغراق السوق. وهذا يؤثّر سلبا على الفلّاح وعلى الإنتاج في المستقبل.
التهريب -من دول الجوار خاصة- يضرب الإنتاج الوطني ويضرّ بالفلاحين (تهريب الأغنام أثناء الأعياد مثلا). الحل الجذري لا يتمثل في التوريد لتعديل أسعار البيع، بل النظر في حقيقة كلفة الإنتاج التي تتحكّم فيها الدولة.
منذ أسابيع تابع الرّأي العام ظاهرة إتلاف محصول القوارص في شوارع أحد مدن الوطن القبلي. فائض الإنتاج في القوارص نتج عن تشجيع الدّولة العشوائي لزراعة القوارص دون التفكير في استيعاب فائض الإنتاج عبر التصنيع وغيره.
وعليه لابدّ من تنظيم الإنتاج (خارطة إنتاج ملزمة لجميع الأطراف) وإحداث توازن في السّوق بين العرض والطلب.
أجرى الحوار علي البعزاوي