كثيرا ما يعود الحديث عن استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل في الظروف الصعبة أو المحطات الكبيرة وخاصة في المؤتمرات لتكون محور صراع وتجاذب بين النقابيّين. وهذا ما حصل في المؤتمر الأخير إذ تكلّم الجميع عن “الاستقلالية” ولكن دون الغوص في المضمون إذ في التفاصيل قد تكمن الاختلافات إلى حد التّنافر والتناقض. فما الذي يقصده الأمين العام السابق مثلا حين يثير هذه المسألة؟ وأيّ مفهوم تتبناه القيادة الحالية؟ وكيف يرى البعض الآخر استقلالية المنظمة الشغيلة؟
حفل الافتتاح والاستقلالية
حفل افتتاح المؤتمر العام بقصر الرياضة بالمنزه كان كبيرا بكل المقاييس. فعدد الحاضرين كان بالآلاف ومظاهر “القوة” المادية والأدبية والتنظيمية كانت بارزة للعيان والضيوف الأجانب، أصدقاء الاتحاد، تجاوز عددهم المائة أتوا من كل أنحاء العالم. لقد أراد الاتحاد بهذا الافتتاح “الاستعراضي” أن يردّ سياسيا على كل من حاول التشكيك في قدرته على مواصلة لعب دوره الوطني من المنتسبين للسلطة وأحزابها أي كانت مواقعهم: في الحكم أو من ضمن “المثقفين” أو في الإعلام أو أحزاب السلطة ومنظمات المجتمع المدني التابعة لها… كما هي رسالة إلى الرأي العام الوطني والدولي بأن الاتحاد ينجز مؤتمره الكبير بعيدا عن المال السياسي الفاسد والأموال الخليجية التخريبيّة التي لجأت لها بعض الأحزاب في مؤتمراتها. هي رسالة كذلك إلى من يستقوي على البلاد والشعب بأعدائهما بأن للاتحاد أصدقاء يؤمنون بعولمة النضال في مواجهة عولمة “الخراب والتدمير” بأبعادهما المختلفة. ولافت للانتباه أيضا عدم دعوة الاتحاد لأي من الأحزاب لحضور هذا الحفل بدعوى الاستقلالية عن الجميع، فإلى أيّ مدى وفقت القيادة في هذا التّبرير؟ لنتبيّن معا طبيعة الأحزاب ومواقفها من قضايا العمال ومنظمتهم النقابية…
خيارات ليبرالية مدمّرة
هناك أحزاب اليمين، المتسترة بالحداثة أو المتسترة بالدين، التي تتبنى الخيارات الليبرالية المتوحّشة خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي والتي تكون ضحاياها الفئات الاجتماعية المفقرة والمهمّشة والعمال لتطال أيضا الطبقة المتوسطة. إنجازات حكومات اليمين المتتالية تمثلت في منظومة صحية منخرمة واحدة لأبناء الشعب الكريم لا تساهم إلا في عذابات المواطنين والثانية لغيرهم من المحظوظين الميسورين. حكومات الأحزاب اليمينية فرضت على التونسيين نقلا عموميا يعمق الشعور بالضيم وآخر خاص لا يقدر “الزوالي” على مصاريفه اليومية. الأحزاب المؤمنة بالتوجّه الليبرالي تفوت في المؤسسات العمومية بما في ذلك المربحة منها بغرض تحويل الدولة إلى مجرد راع لمصالح رأس المال المحلي والأجنبي. نفس هذه الأحزاب تسعى اليوم عبر ممثّليها في السلطة إلى ضرب المدرسة العمومية لإعلاء شأن التعليم الخاص لتحرم التونسي “العادي” من التعليم الجيّد كما حرمته من حقّه في العلاج المجاني الفعال.
هذه الأحزاب لم تتم دعوتها لحفل افتتاح مؤتمر الاتحاد بدعوى الاستقلالية عن كل الأحزاب.
أحزاب منتصرة للشعب والوطن
في تناقض تام مع ما تطرحه الأحزاب الليبرالية، توجد أحزاب ذات مرجعيات فكرية مختلفة تنتصر بالكامل لمصالح العمال وتتبنى الدفاع على مصالحهم ومصالح الفئات الضعيفة والمهمّشة كما تنتصر للجهات التي تعاني من التهميش والتخلف على كل المستويات. هذه الأحزاب تعادي بوضوح في برامجها وأهدافها كل التوجهات الليبرالية في مختلف مناحي الحيات وهي بالتالي حليف موضوعي للعمال وأبناء “الشعب الكريم”. هذه الأحزاب تساند وتدافع باستمرار على المعطلين عن العمل وعلى حق المبدعين والمثقّفين في النشاط والإنتاج دون تضييق وعلى الحقوقيين وعلى مساواة المرأة بالرجل. هي في كلمة أحزاب صاحبة مشاريع تقدمية لمجتمعنا ترنو إلى العدالة الاجتماعية والحرية.
هذه الأحزاب، أيضا، لم تتمّ دعوتها لحفل افتتاح مؤتمر الاتحاد بدعوى الاستقلالية عن الجميع.
قضايا خلافية أخرى
بالإضافة لما تقدم، تعتبر مواقف الاتحاد متنافرة مع أحزاب الحكم اليمينية ومتناغمة مع الأحزاب التقدمية. فاعتبار القضية الفلسطينية قضيتنا المركزية أصبح يتطلب كحد أدنى تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني وقد وقف الجميع على رفض أحزاب اليمين لذلك أثناء صياغة الدستور. وتتميّز سياسة هذه الأحزاب بالانضباط الكامل لتعليمات الدوائر الأجنبية بما جعلها تفرط في سيادة القرار الوطني أتعلق الأمر بالإجراءات الاقتصادية والاجتماعية أو بسياسة الأحلاف الخارجية التي تسعى لتخريب بلداننا وتشجيع الاقتتال الداخلي. ملف الإرهاب وكل ما يرتبط به وبتداعياته نقطة خلافية كبرى مع السلطة القائمة. إذا هناك عديد المجالات التي تتقاطع فيها مصلحة المنظمة الشّغيلة وأهدافها مع بعض الأحزاب دون أن ننفي طبعا الأولويات والطرق إذ لكلا الطّرفين خصوصيات.
القيادة السابقة آثرت عدم دعوة أي حزب لحفل افتتاح المؤتمر 23 خوفا على استقلالية الاتحاد أو حفاظا عليها.
من جانفي 78 إلى نوفمبر 2012
تاريخ الأحزاب اليمينية مع الاتحاد كله شوائب. ففي أواخر السبعينات حصلت مجزرة حقيقية راح ضحيتها عديد الشهداء وكان هدفها القضاء على الاتحاد وفي أواسط الثمانينات تم السّطو على دور الاتحاد وتنصيب قيادة موالية للسلطة بغرض تمرير خيارات معادية للشعب وللوطن. أما في عشرية التسعينات فقد تم اختراق المنظمة وتدجينها بطريقة “ناعمة” لتتحول إلى واحد من روافد السلطة. وحتى بعيد الثورة لم تسلم المنظمة الشغيلة من الاستهداف إذ حصل هجوم بربري سنة 2012 على المقر المركزي للاستيلاء عليه وطرد قياداته. هذا ما فعله “الدساترة” و”التجمعيون” و”الترويكا” وهدفهم واحد: التخلص من اتحاد الشغل كمثل للعمال ومناصر لكل الفئات المحرومة والمهمشة ومدافع عن السيادة الوطنية.
هذه الأحزاب لم تتم دعوتها لحفل افتتاح مؤتمر الاتحاد تماما مثل الأحزاب التي كانت دوما منتصرة للعمال ومنحازة للاتحاد بدعوى الاستقلالية.
معاداة النضال الاجتماعي
الأكيد أن موقف الأحزاب اليمينية من النضال الاجتماعي له أسبابه. فالخيارات الليبرالية المدمّرة يتطلب تمريرها خلو الساحة من أي حراك اجتماعي سلمي أكان عنوانه المعطلون أو المهمشون أو الجهات المحرومة… إن أكثر ما يخيف أحزاب اليمين هو النضال الاجتماعي خاصة إذا كان منظّما وهذا ما يتوفّر للنقابات إذ لها منخرطون ومقرات في كل أنحاء البلاد كما أن نضالها سلمي ودستوري الأمر الذي يعقد وضعية الحكام في التعاطي معها لذلك عادة ما تلجأ السلطة إلى ثنائية العنف أو الاختراق والتدجين لإزالة عائق النقابات.
هذه الأحزاب لا تمثل خطرا على استقلالية الاتحاد بل هي تهديد مباشر ومتواصل لوجوده “لذلك” لم تتم دعوتها لحفل افتتاح مؤتمر الاتحاد مثلها مثل الأحزاب التي لا مصلحة لها إلا في اتحاد قوي ومستقل.
أي مفهوم للاستقلالية؟
القول بأن المنظمة الشغيلة مستقلة عن جميع الأحزاب -وأضيف عن جميع المنظمات والهيئات وعن السلطات- أمر بديهي وهي استقلالية في القرار والنشاط والممارسة… لكن الشواهد التاريخية أثبتت بأن الاستقلالية مهدّدة من الأحزاب اليمينية الرجعية وما عداها هو افتراء ومغالطة هدفها تجنب الحرج من هذه الأحزاب التي عادة ما تكون موجودة في الحكم بمفردها أو في ائتلاف. فالتاريخ يشهد أيضا بأن النضال النقابي كان دائما عرضة للتشويه والتخريب من طرف ميليشيات الأحزاب الحاكمة. حصل هذا مع الدساترة والتجمعيين والنهضويين ومن معهم أثناء حكم الترويكا. هذه حقائق وفي المقابل لا يذكر التاريخ ولو مناسبة واحدة تصرّف فيها المنتسبون للأحزاب التقدمية بطريقة تعرقل نضال العمال وتضر بمنظمتهم. متى لم يلتزم هؤلاء بثوابت المنظمة؟ أم أن الحرج وأشياء أخرى تفعل فعلها في القلوب والعقول؟
استقلالية الاتحاد عن الجميع هي من البديهيات إلا أن توظيفها ضد البعض من المتمسكين بها على خلفيّة انتماءاتهم السياسية التقدمية لعزلهم وإقصائهم أمر يثير الريبة كما أن الخلط المتعمد بين الخصوم الحقيقيين للعمل النقابي والمنتصرين له يثير الشكوك حول نبل الحديث عن الاستقلالية.
فهل أفلحت القيادة المتخلّية في اعتبار كل الأحزاب مهددة لاستقلالية المنظمة؟
سليم غريس – مترشح
عضو النقابة العامة للتعليم الأساسي