يبدو أن وقائع الحركة الاجتماعية والشعبية ضدّ السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي يمعن الائتلاف الحاكم في تنفيذها بعقلية فيها الكثير من الاستهتار والعجرفة، بدأت تشهد هذه المرّة سياقا مغايرا وغير مألوف نسبيّا لما عهدناه في السنوات الماضية. إن الحراك الاجتماعي بجميع أشكاله الفردية والجماعية تخطى سياقاته المعهودة التي كثيرا ما ارتبطت من جهة بواحدة من الخصوصيات الأساسية القارة تقريبا في الذهنية الجماعية لشعبنا الذي كثيرا ما خطّ أمجاده بالشتاء وتحديدا في شهر جانفي، ومن جهة أخرى بدفع تمثّلات أهدافه وطموحاته المغدورة في ذكرى ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر 2010-14 جانفي 2011. فالمتأمّل، وإن بعين خاطفة فيما يدور في الواجهة الاجتماعية وعلى طول البلاد وعرضها، لا يمكنه إلا التوقف من ناحية عند حقيقة استقرار الحراك الاجتماعي واستمراره بشكل غير مسبوق ومن ناحية أخرى عند اتساع رقعته الجغرافية وتعدد أشكاله وأساليبه تماما مثل تنوع مطالبه وغاياته.
إن البلاد على صفيح ساخن وفتائل الأزمة وما يرافقها من احتجاجات ضدّ تدهور الأوضاع وترديها في مختلف المستويات (تفاقم البطالة، تدهور المقدرة الشرائية الخ…) شبيهة بالعربة المتنقلة التي تمر من مكان إلى آخر ومن قطاع إلى غيره دون أن تستثني القرى والأرياف. والعجيب أن نظام الحكم لا يكتفي فقط بدور المتفرج الذي يدير الظهر لهذا الحريق الاجتماعي وإنما أوكل لنفسه صبّ الزيت على النار من خلال المضي الأرعن في الخيارات القديمة بوتائر أشدّ صلفا وغلظة والأعجب من ذلك الاستدارة القوية من الفريق الحاكم إلى إعادة تحريك العصى الغليظة في وجه طالبي الحقوق بهدف إشاعة الخوف من جديد وكسر شوكة الغاضبين والمحتجين في المدن والأرياف.
والحقيقة أن مثل هذا التعاطي القائم على تجريم الحراك الاجتماعي وإسكات الأفواه بالقوة الغاشمة سواء الغليظة منها أو الناعمة لن يسهم في مثل ظروفنا الحالية إلا في تعميق الأزمة، وبعبارة أوضح ف”السلم الاجتماعي” الذي يبحث عنه هذا الفريق الحاكم لن يتأتّى له بمحاولة اقحام المؤسستين الأمنية والقضائيّة في الحراك الاجتماعي المشروع والعادل، لإضفاء شرعيّة قانونيّة زائفة على نهجه القمعي، وعلى عجزه عن الاستجابة لمطالب الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة والجهات والمناطق والأحياء المهمّشة، جيلا بعد جيلٍ. كما أن تلك “السّلم الاجتماعيّة” لن تتأتّى من خلال خلط الأوراق وبعثرتها بواسطة الطّمس والتعتيم الإعلامي أو افتعال قضايا هامشيّة وتضخيمها لتلهية الرّأي العام عن قضايا البلاد الحارقة والجوهريّة.
إنّ الفريق الحاكم ومن وراءه الائتلاف الطبقي الذي يسنده، غير قادر على استخلاص الدّروس من تجربة أسلافه ولا هو مستعدّ، بحكم طبيعته الرّجعيّة، لتعديل خياراته اللاّوطنيّة واللاشعبيّة. وهو ما يطرح على القوى الثورية والتقدميّة مضاعفة الجهد ورصّ الصفوف ومزيد توضيح الرّؤية والبرنامج أوّلا للدّفاع عن الحريات العامة والفرديّة وتحصين مكسب الديمقراطية، وثانيا لمساعدة الحركة الاجتماعيّة وتخليصها من شوائب القطاعيّة والمحلية والارتقاء بها لتكسب بعدا وطنيّا عامّا وتجذير مطالبها وحوصلتها في برنامج عام يكون المرشد لمسيرتها. إنّ التحرّكات الاجتماعيّة المشتّتة والمبعثرة في هذه البلدة أو تلك، أو هذا القطاع أو ذاك، تبقى محدودة النتائج وضعيفة التّأثير أمام سطوة الائتلاف الحاكم الذي يدفعه فشله في معالجة الأوضاع الاقتصاديّة وارتباطاته الخارجيّة التابعة والذّليلة، إلى لعب كلّ أوراقه بما فيها الاستنجاد بآلة القمع والتنكيل لتطويق الحراك الاجتماعي المتنامي والإجهاز على جذوة النضال.
فإلى العمل الجادّ من أجل انعتاق شعبنا ومجتمعنا.