حاتم بوكسره
اختفت من الساحة الثقافية كلّ بوادر الجدل الذي دام لمدة أسبوع ونيف حول العمل الكوريغرافي “ألهاكم التكاثر” لنجيب خلف الله إثر خضوع الجهة المنتجة وهي المسرح الوطني إلى رغبة نقابة الأئمة وأعوان المساجد، التابعة للمنظمة التونسية للشغل إثر الضجة التي أحدثتها والتهديدات التي تعالت على صفحات “الفايس بوك” بالهجوم على المسرح الوطني يوم الجمعة 17 فيفري 2017.
تقهقر في الموقف دون قراءة العواقب
وقد سارعت هذه المؤسسة الوطنية إلى سحب العنوان تحت ضغط قوى عرفت بعدائها لحرية الرأي والتفكير والإبداع دون إعمال الرأي ودون قراءة العواقب المنجرّة عن هذا التراجع وتأثيرها على منسوب الحريات في البلاد عامة وعلى حرية الإبداع بالخصوص .
كما أنّ بيان مدير المسرح الوطني الفنان الفاضل الجعايبي الصادر يوم الأحد 19 فيفري الذي جاء تبريرا للتراجع عن التسمية العربية للعمل وإخفائها ومن ثمّة الإبقاء على التسمية الفرنسية للعمل “Fausse Couche” لم يعجب العديد من الفنانين الذين لم يخفوا امتعاضهم، بل تواصل الأمر إلى حد اتهام الجعايبي بالجبن إثر بيانه الذي وصفه عديد منهم بـالمتعالي. إذ كان يسأل نفسه ويجيب نافيا وجود “الآخر” أو كأستاذ يجيب تلاميذه في كل ما استعصى عليهم فهمه مختصرا عليهم الطريق بنبرة متعالية “لم يأمرني أحد بأيّ قرار. أنا لا أومر”.
ولم يكتف الجعايبي بذلك، فما زاد من سخط الفنانين والمتابعين للشأن الفني أنّ البيان حمل استهزاء بكل من انتقد تراجع المسرح الوطني وسحب العنوان. إذ لقّب كل من خالفه الرأي أو كل من دعا إلى عدم التراجع بـ”الأحرار” بين ظفرين متهما إياهم بشن حملة على المسرح الوطني”.. وهناك في نفس الوقت من المثقّفين والفنّانين “الأحرار” من يريدون إحباط هذا المشروع…” ولم يتبقّ سوى أن يردد الجعايبي تلك العبارة الشهيرة التي تعوّدنا سماعها في عهد سابق وهي “الحاقدون، أعداء النجاح”.
رضا الجوادي يكسب المعركة ويدعو الفنّانين إلى ميدانه
إثر هذا الخطأ الاتصالي، كان النجاح في هذه المرة من نصيب الطرف الآخر. إذ نشر رضا الجوادي يوم الاثنين 20 فيفري على صفحته على “الفايس بوك” بيانا إلى “الإخوة الفنانين” قائلا في مستهلّه ” اسمحوا لي أن أمُدَّ يدي إليكم نيابة عن كثير من الأئمة وعلماء الدين لنتحاور حول طرق ووسائل بناء فنّ هادفٍ ومُلتزم بقضايا الشعب والأمة ومنضبط لأخلاق الإسلام العظيم” لينصّب نفسه وصيّا عليهم “نوصي أنفسنا وإياكم بعدم ترك مَعَاوِل الهدم الإعلامية أو الإيديولوجية أو الحزبية تَحُول دون تشييد جُسور الثّقة والتعاون بيننا جميعا لمصلحة البلاد والأمة”.
في حين صرّح كاتب عام النقابة الوطنية للأئمة والإطارات الدينية (نقابة مستقلة) فاضل عاشور لإذاعة “جوهرة آف آم” في نفس اليوم “إنّ استعمال آية قرآنية للاستشهاد أو لعنونة كتاب أو عمل فني ليس مخالفا للدين والشرع، ولا يحمل أيّ تعدّي على القرآن الكريم… مؤكدا أنّ النقابة الوطنية للأئمة لا تمانع في عنونة مسرحية بآية قرآنية كما تستغرب تخلّي مخرج العرض على العنوان بعد الجدل الذي أثاره”.
ألهاكم التّكفير حتى صارت بلادنا في الحضيض
وفي اليوم الموالي أي الثلاثاء 21 فيفري أصدرت الفضاءات المسرحية الخاصة “مسار” والريو” و”الفتح” معية عدد من الفنانين عريضة بعنوان “ألهاكم التكفير حتى صارت بلادنا في الحضيض” اتّهمت فيها الحكومة بالتخلي “عن الفنان والمؤسسة الثقافية وعن وزير شؤونهما وتركتهم تحت ضغط هذا الخطاب الإرهابي المؤسساتي لحالهم يتدحرجون إلى تنازلات تمسّ بجوهر الدستور”، مذكرة إياها بواجباتها إذ “كان من واجبات حكومة الوحدة الوطنية مقاضاة هذا المجلس الذي هدّد بتكسير مسرح الفن الرابع وهو مقر رسمي للدولة ولو كان مسرحا” لتتالى إثر هذه العريضة بيانات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الرافضة بشدة المساس بحرية التعبير ومصادرة اللغة العربية بدعوى الدفاع عن الدين وعن المقدّس.
عمر الشارني: احتكار النّص الدّيني من أجل غاية سياسيّة وانتخابيّة
وحول مسألة اعتماد آية من القرآن في الأعمال الفنية صرّح الأستاذ بالجامعات الفرنسية وعضو الأكاديمية التونسية للعلوم والآداب والفنون المفكر عمر الشارني، لـ”صوت الشعب” أنّ اللغة تسبق النص الديني. فاللغة هي أداة المعرفة ولم يصبح الإنسان إنسانا إلاّ عبرها، كما لم يستطع الإنسان إنتاج المعرفة والعلم إلاّ بعد أن أنتج لغة مستشهدا بالآية القرآنية “وعلّم آدم الأسماء كلها” مبيّنا أنّ اللغة تكونت شيئا فشيئا عبر تاريخ الإنسانية وقبل أن توجد هذه اللغة المتمفصلة.
وقال الشارني إنّ استعمال عبارات وجمل من النص الديني ليست سابقة لا في الإسلام ولا في الديانات الأخرى. إذ تمّ استعمالها في الإنجيل في عدة مواضع أخلاقية وفنية وبالخصوص في الفن التشكيلي الذي ازدهر خلال العصر الوسيط في عدة أجزاء في أوروبا داخل الكنائس عبر تمثيل الرموز الدينية.
استعمال النّص الدّيني كأصل تجاري من أجل الظّهور كممثّل وحيد للدّين
أما في الإسلام فقد تمّ استعمال النصوص الدينية في الشعر وفي الأدب وحتى إن لم تكن على سبيل التصريح، فقد كانت مضمنة واحتوت على نقد للأديان كالبيت المعروف من قصيدة ابن هانئ الأندلسي “ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ ** فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ” وغيرها من الأمثلة في توظيف الآيات القرآنية في عديد المواضع.
وبيّن الشارني أنّ الهدف من هذه الضجة هو احتكار النص الديني احتكارا سياسيا كأصل تجاري لفئة لها مطامع للبروز والظهور كممثل وحيد وشرعي للدين دون غيرها وإقصاء كلّ من ليس مواليا لها عن هذا الأثر الديني وحرمانهم منه كي يجعلوا منه مطية سياسية من أجل غاية وحيدة هي غاية انتخابية وإرساء ميزان قوى قائم على الظهور كممثل وحيد للدين.
أين وزارة الثّقافة من كلّ هذا؟
وزارة الشؤون الثقافية لم تنبس ببنت شفة حتى الآن واستمر وزير “الساحات” في تدشيناته المعتادة كأنّ أمرا بهذا القدر من الخطورة لا يعنيه، مختبئا وراء بيان مدير المسرح الوطني الذي زاد الطين بلة. فالجعايبي الذي قال في تدوينته سابقة الذكر ‘اتّصلتُ بسلطة الإشراف عن طريق وزير الشؤون الثقافية وأعلمته بالتنبيه ثمّ تبادلت معه الرأي في هذه الظروف الصعبة” مشددا على أنه لم يتلقّ تعليمات من أيّ أحد ومبيّنا أنّ “المسألة الدينيّة معقّدة ورهاناتها كبيرة لا تُوَاجَهُ بالتعنُّت والاصطدام بل بالتريّث والتحريّ والتشاور والتبصّر والتعقّل رغم أنّها لا تستهدف جوهر موضوع المسرحيّة ولا تمسّ بكلمة واحدة أو حركة واحدة من العمل”.
من الوفاق السّياسي إلى الوفاق الثّقافي: ألهاكم الوفاق
ما بدا للعيان أنّ التهديد الذي طال مؤسسة وطنية لا يعني وزارة الإشراف في شيء، وأنّ مدير هذه المؤسسة تراجع دون إدراك للعواقب، متعلّلا برغبة المخرج وبأنّ الظرف لا يسمح بمثل هذا التعنّت لتمرّ المسألة في صمت رسمي هو أشبه بوفاق انتقلت عدواه من الواقع السياسي للميدان الثقافي. فما اتفق عليه مدير المسرح الوطني ومن ورائه وزير الشؤون الثقافية لم يكن تحمّلا لمسؤوليتهما التاريخية أمام خطر محدق وهو تراجع مستوى الحرية في كل انسحاب أو تخلّ. وبعد هذه السابقة سيفكر ألف مرة كلّ من تسوّل له نفسه قبل استعمال نصف آية أو ربع أو كلمة.
فهل ألهاكم الوفاق حتى تركتم الحرية؟