حاتم بوكسره
أقامت استقالة آمال موسى من إدارة مهرجان قرطاج الدولي الدنيا ولم تقعدها، فتتالت التصريحات والتصريحات المضادة على مواقع التواصل الاجتماعي بينها وبين الوزير وفي مختلف وسائل الإعلام التي تداولت تصريحات آمال حول ما اكتشفته صلب الإدارة وعمليات الشد والجذب بينها وبين الفريق العامل، إضافة إلى طرد الملحقة الإعلامية بديوان الوزير من الندوة والتي أفردت لها وسائل الإعلام جزءً لا يستهان به من التغطية وضجت المواقع بين مؤيدي آمال ومؤيدي الملحقة.
تهافـُـت التّهافت
عرّف معجم لسان العرب معنى هَفَتَ بالتساقط، فالجدار إذا تهافت يعني تساقط قطعة قطعة. وما دفعنا إلى كتابة هذا المقال هو تساقط الأحداث والأفعال وتهاو ورقات أخرى من كتاب أو سلسلة عودتنا بها السلطة الحاكمة وهي “تطويق الأزمة” في الظاهر وتجاهل أسبابها الباطنية.
كما أنّ تهافت التهافت هو الكتاب الذي ردّ فيه الفيلسوف ابن رشد على كتاب أبي حامد الغزالي الشهير والمعروف بــ”تهافت الفلاسفة” ليبيّن أنّ بعض الآراء التي انتقد الغزالي بها الفلاسفة غير سوية أو ساقطة.
فلم تكن استقالة آمال موسى لتثير فينا رغبة الكتابة نظرا إلى أننا اعتدنا هذه الحوادث العرضية التي ليست في الحقيقة سوى بعض البثور التي تطفو على جلد مريض نخر السرطان عظامه، وما خفي كان أعظم. لكن ردة فعل الوزارة جعلتنا نتوقف قليلا عند هذا “الحادث العرضي”.
حين أعلنت آمال موسى عن استقالتها عشية الاثنين 6 مارس 2016، في نشرة الأخبار في إذاعة “موزاييك آف آم” لتنشر وزارة الثقافة بعد أكثر من ساعة نص استقالة سبعة من أعضاء الهيئة المديرة للمهرجان. ويشير البلاغ الذي يعلوها إلى: “تعلم وزارة الشؤون الثقافية أنه تبعا لاستقالة أعضاء الهيئة الإدارية لمهرجان قرطاج الدولي في دورته 53 بسبب انعدام إمكانيات التواصل والعمل الجماعي مع المديرة الفنية الحالية السيدة آمال موسى، فإنه سيقع النظر في الموضوع بصورة متأكدة بما يعيد ظروف العمل الجدي لهذا المهرجان ويعطيه كلّ أسباب النجاح والتوفيق المعهودين.”
لم تخل الأسماء التي استقالت من أشخاص متنفّذين من بينهم المندوب الجهوي للشؤون الثقافية بتونس وسلفه الذي أصبح حاليا “المدير العام لوحدة التصرف حسب الأهداف” أو ما اتفق على تسميته “مديرا لمدينة الثقافة” وامرأة مكلفة بمهمة بالوزارة، إضافة إلى مستشار لدى الوزير وهو إعلامي كان قد اشتغل مع الوزير حين كان مديرا للدورة 52 من مهرجان قرطاج الدولي.
فهل تفطّن هذا الجمع إلى أنّ آمال موسى لم يكن التواصل معها ممكنا إلاّ بعد أن أعلنت عن استقالتها؟ أم أنّ ما وقع هو فقط تخفيف عن الوزير والوزارة من أثر حادثة الاستقالة؟
قِــفلٌ غـُـيّر بليل: طيش المسؤولين
ولم تكن تصرفات الطرفين (سلطة الإشراف وآمال موسى) التي عقبت هذه الأحداث سوى المواصلة في نفس سياسة التنصل من المسؤولية ورمي التهمة على الطرف الآخر. فبالبنسبة إلى تغيير أقفال مكتب إدارة المهرجان، صرّح مدير المؤسسة لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية علي المرموري الوطنية لـ”صوت الشعب” أنه من أمر بذلك، في حين اتهمت آمال موسى الوزير بإصدار هذا الأمر.
هذا الأمر تزامن بـ”محض الصدفة” مع إعلان موسى عن ندوة صحفية كانت تنوي تنظيمها في مقر إدارة المهرجان، وإن كان منطق الخروج من مؤسسة ثم العودة إليها لتقديم ندوة صحفية من أجل فضح الخور فيها أمر غير منطقي.
وتتالت التصرفات الطائشة، فبعد انطلاق الندوة الصحفية في المقهى المحاذي لإدارة المهرجان أتت الملحقة الإعلامية للوزير سيماء المزوغي لتعلن أنّ المكتب مفتوح وأنّ علي المرموري موجود أيضا لتقوم آمال بطردها قائلة “فلتغادر عين الوزير المكان”.
يبدو جليا أن الوزارة أرادت إصلاح خطئ بخطئ إضافي. فقد كان من الأجدر بعد غلق مكتب إدارة المهرجان ترك آمال وندوتها ثم الرد عليها ببلاغ أو بندوة مماثلة.
لكن ملحقة الوزير لم تكتف بهذا، حيث اتصلت بوحدة رصد الانتهاكات على الصحفيين بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين من أجل توثيق “حالة انتهاك على إعلامية”. إلاّ أنّ أعضاء وحدة الرصد استمعوا إلى الطرفين (الملحقة وآمال موسى) ولم يعتبروا هذه الحالة انتهاكا. إذ أنّ الملحقة قد قدمت إلى الندوة بصفتها كموظفة بالوزارة ولم تأت للتغطية الصحفية. وهو تصرف صائب من قبل العاملين بوحدة الرصد. إلاّ أنّ المعركة مازالت مستمرة بين الملحقة وآمال موسى حيث لم يدّخر كلّ طرف جهدا في دحض التّهم الموجّهة إليه من أجل استمالة الرأي العام “الفايسبوكي” إلى جانبه.
نطح الصّخر: هواية وزاريّة
ما قالته آمال موسى في الندوة الصحفية وتناقلته وسائل الإعلام المختلفة لم يشكّل مفاجأة للمتابعين للشأن الثقافي عن كثب، ولا يمثّل خيبة أمل لكل من راقب عمل الوزير الحالي الذي ارتكز على مواقع التواصل الاجتماعية كعنصر أساسي لتمرير المعلومة، محاولا وضع بصمته الشخصية أو ما يسمّى تندّرا عند العامة بــ”فكرة سامي الفهري” بداية من الوسم الذي يذيّل منشورات “الفايس بوك” على صفحة الوزارة “#محمد_زين_العابدين” الذي أقلع عن كتابته مؤخرا، إلى تدشين ساحات الفنون دون أن يتلو ذلك أي نشاط ثقافي فعلي.
وواصل الوزير في تغطية الأسباب الحقيقية لكل “الحوادث العرضية” ولم يتجرّأ إلى حدّ هذه اللحظة على فتح حوار جدي وشامل حول تردّي وضع التسيير العمومي للشؤون الثقافية. كما لم يحاول، مثل غيره من الوزراء، فتح ملفات الفساد وسوء التصرف وهدر الأموال العمومية وتقديمها “هبةً ممّن لا يملك إلى من لا يستحق”.
كما تواصل الوزارة إلى حدود هذه اللحظة صمّ آذاننا بسجلّ “الإنجازات” رغم الأزمة التي تحاول التعتيم عليها في كل مرة، ليصبح نفي وجود الأزمة في حد ذاته “هواية في نطح الصخّر” لم ينفرد بها وزير الشؤون الثقافية فحسب.
مدير بكامل الصّلاحيّات أم مدير فنّي؟
أرجعت آمال موسى في الندوة الصحفية التي نظّمتها يوم الثلاثاء 7 مارس، تقديمها الاستقالة، إلاّ أنّ مهمّتها أصبحت صورية في ظلّ سيطرة مدير المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية على ميزانية المهرجان والإذن بالصرف وكلّ ما يخصّ موارد المهرجان من تذاكر وغيرها. وهو ما أكّده هذه الأخير في ردّه على تصريحها:”هذا هو القانون الموجود وأنا أتصرف حسب القانون”.
وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين قال في مداخلته صبيحة نفس اليوم على “شمس آف آم” إنّ الوزارة تحتاج إلى مدير فني للمهرجان وإنّ آمال موسى لم تكن متعاونة بالشكل اللاّزم مع مدير المؤسسة الوطنية الذي يتحمّل المسؤولية المالية حسب القانون. وأضاف أنّ تحمّل مسؤولية المهرجان أمر غير هيّن لا يستطيع تحمّله الضعيف.
وإن كان هذا الكلام موجّها إلى آمال موسى فإنه يُعتبر إقرارا ضمنيا من الوزير بفشل اختياره.
استقلاليّة المهرجان: بيت القصيد
سنتكفي بهذا القدر من تصريحات آمال موسى ووزير الشؤون الثقافية.
فما قالته حول سوء التصرف وما زعمت اكتشافه من تجاوزات في الدورة السابقة والعراقيل والمصاعب كانت وسائل الإعلام قد نشرته بالقدر الكافي ولا حاجة لنا بتفاصيل تصيب المتابع بالغثيان فحال البلاد لا يخفى على أحد وحال الثقافة من حال البلاد.
ولنعد إلى مسألة استقلالية المهرجانات التي تمثّل بيت القصيد الذي تتحاشى سلطة الإشراف الخوض فيه. فقرار الوزير بجعل المهرجانات الكبرى تحت تصرف المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية هو عودة إلى الوراء بهدف بسط الإدارة سلطتها الكاملة على الفعل الثّقافي بمقاييس وآليات عمل عفى عنها الدهر. علما وأنّ موظفي هذه المؤسسة ومسيّريها ليسوا سوى أعوان تعوّد أغلبهم على آيات وزارة أثبتت أنها على هامش الإبداع طيلة عقود.
هذه الوزارة تحتاج بدورها إلى إعادة هيكلة. ولم يستطع أيّ وزير من الوزراء الستة المتعاقبين عليها بعد 14 جانفي حلحلة وضعيتها قيد أنملة.
إنّ استقلالية المهرجانات الكبرى هي المطلب الرئيس وحجر الأساس لإنجاحها. فلن تحقق المهرجانات النجاح وهي يسيطر على تسييرها موظفون أمضوا عقودا في مكاتب الوزارة واعتادوا على تقييم العمل الثقافي “بالكيلوغرام”. ولن تحقّق المهرجانات أيّ تقدّم دون “عقد – برنامج” يصاغ مع مدير حسب أهداف سيحاسب عليها. ولن تنجح مهرجانات تصوغها بيروقراطية اعتادت التعامل مع التظاهرات بمنطق “الساعات الإضافية” لتقوية المرتبات الشهرية التي يتقاضونها بقية العام من الوزارة.
لن تنجح مهرجانات لا تحتوي على إدارة قارة تشتغل طيلة العام تضمن التواصل وبهيئة مديرة متجانسة حسب هيكلة تنظيمية تحدد من يفعل ماذا، ولن تنجح مهرجانات يخطط لها قبل تسعة أشهر ويغادرها مديروها قبل ثلاثة أو حتى ستة أشهر من انطلاق المهرجان.
كلها عبارات ردّدها عديدون من أهل القطاع الذين أُوصدت دونهم الأبواب، فظلّوا متفرجين مراقبين ومن راقب الوزارة مات همّا…