* نيران صديقة كشفت أنّ وثيقة قرطاج غطاء للتمهيد لتغيير نظام الحكم، و”حكومة الوحدة الوطنية” وسيلة لتنفيذ برنامج خطير سطّرته الدوائر المالية العالمية
* بعد “التقاء الخطين المتوازيين” وبعد أن أصبحت مشاركة النهضة في الحكم تخدم مصلحة البلاد ولا تُفرغ الانتخابات من محتواها صار كل شيء جائزا
يتمتّع يوسف الشاهد بالصلاحيات الدستورية التي تكفل له ممارسة السلطات وفق الدّستور بما في ذلك إقالة الوزراء واستبدالهم، خصوصا إذا تعلّق الأمر بـ”إعادة هيبة الدولة والحفاظ على صورة جيّدة للتواصل الحكومي” وفق تعبيره، بقي أنّ هذا النهج يفترض ألاّ نكون في وضع استثنائي وألاّ تكون قاعدة الحكم هي الشرعية التوافقيّة المستندة إلى وثيقة قرطاج التي وقّعتها تسعة أحزاب وثلاث منظمات وطنية وجاء في أولويتها السادسة أنّ الحكومة “تحظى بالدعم الكامل من قبل الأطراف الداعمة لمبادرة رئيس الجمهورية على قاعدة الأولويات والتوجّهات المضمّنة بهذه الوثيقة التوافقية ومبادئ التشاركية” دون الإشارة أو الاستناد إلى الشرعية الانتخابية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ ما أتاه رئيس الحكومة منفردا وفجأة بإقالة وزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي المنحدر من نقابة الشغّالين واستبداله بالقيادي في اتحاد الأعراف خليل الغرياني الذي استنكف فألغيت بعده الوزارة برمّتها، وتكليف أحمد عظوم مرشّح النهضة ذات يوم لحكومة التكنقراط التي آلت إلى مهدي جمعة بوزارة الشؤون الدّينية وتغيير كاتب الدولة للتجارة فيصل الحفيان الذي لم يعد اختلافه مع وزير الصناعة والتّجارة وأمين عام حركة النهضة زياد العذاري خافيا على أحد، يرتقي في تقديرنا إلى ما وصّفه ذات يوم زعماء في حركة نداء تونس بـ”خيانة مؤتمن” عند حديثهم عن انقلاب حزبهم على ثوابته ووعوده الانتخابية وها هو الانقلاب يحصل مرّة أخرى على وثيقة قرطاج مثلما أجمعت على ذلك الأحزاب الموقّعة عليها والمنسحبة منها، وبطبيعة الحال المعارضة لها منذ البداية.
وإذا استثنينا حزبي النهضة بقيادة راشد الغنوشي والنداء بقيادة السّبسي الابن، اللذين لا يريان مانعا في “حق رئيس الحكومة في اختيار فريقه الحكومي ضمن آليّات التّشاور والتّنسيق مع الأطراف الموقّعة على وثيقة قرطاج” وينصحانها بمقابلة رئيس الجمهورية بصفته راعيا للاتّفاق من أجل تعهّدها بدعم حكومة الوحدة الوطنية، فإنّ بقيّة الأطراف استغربت واستهجنت وانتقدت ما حصل. وقد ذهب حزبا المسار والجمهوري الشّريكين في الحكم إلى حدّ التعبير عن المفاجأة بعدم التزام الحكومة بوثيقة قرطاج وإقرار التّعديل الحكومي دون التّشاور مع الأحزاب والمنظّمات الموقّعة على الوثيقة والمساندة للحكومة قبل أن يتراجع الوزير “الجمهوري” إياد الدهماني ويبرّر حذف وزارة الوظيفة العمومية ويردّ على الوزير المستقيل. وها هو الغنوشي يتولّى بنفسه زمام المبادرة فيلتقي بالشاهد ويدعوه إلى جمع أطراف وثيقة قرطاج فيلبّي هذا الأخير الطّلب على أن يكون التّنفيذ السبت القادم!
وذهب الوطني الحر إلى حدّ اعتبار ما أتاه يوسف الشّاهد يرمي إلى “زعزعة الاستقرار بالبلاد” ويضرب عرض الحائط بوثيقة قرطاج التي صارت “وثيقة للتحيّل السياسي على الشعب التونسي”. وبدورها، تذكّرت حركة مشروع تونس أنّ “الحكومة لم تكن فعلا حكومة وحدة وطنية وإنّما حكومة محاصصة ومساومة وتسويات وكان من المتوقّع أن تتزعزع أمام أوّل حدث جدّي”..
هي نيران صديقة كشفت بما لا يدع مجالا للشك في أنّ ما يسمّى وثيقة قرطاج ما هي إلّا غطاء للتمهيد لتغيير نظام الحكم وإعادة المقود إلى قصر قرطاج وإطلاق يد رئيس الجمهورية وأنّ “حكومة الوحدة الوطنية” لا تعدو أن تكون وسيلة لتنفيذ برنامج خطير سطّرته الدوائر المالية العالميّة بدأت بعض ملامحه في الظّهور للعيان مع طرح خوصصة البنوك العمومية بشكل رسمي على سبيل المثال بعد أن ضخّت فيها الدولة أموال المجموعة الوطنية تحت يافطة الإصلاح والإنقاذ، وهذه بطبيعة الحال إحدى “النوايا الطيّبة” التي نقلها وزير الماليّة السابق ومحافظ البنك المركزي في رسالتهما الشّهيرة إلى صندوق النقد الدولي في غفلة من الجميع آخر أيام حكومة الحبيب الصيد قبل الإطاحة به والإتْيان بيوسف الشاهد وسط الكثير من الضّجيج والجعجعة.
لقد كان الأحرى بساكن القصبة وساكن قرطاج وحتّى ساكن قصر باردو أن يجنحوا إلى تقييم تجربة حكمهم بعد انقضاء نصف الولاية الانتخابية تقريبا خصوصا وأنّ الوقائع اليومية تؤكّد فشل الفريق الحكومي برمّته وعدم انسجامه وتضامنه في الوقت الذي يتكهّن فيه خبراء اقتصاديّون بأن تتحوّل بلادنا إلى “يونان العرب”.
إنّهم على عجل لتقديم عرابين الولاء والطّاعة للجهات التي التزموا معها بإجراءات بعينها لـ”الإفراج” عن أقساط جديدة من القروض، لذلك يدافع الحاج سفيان طوبال عن “تسرّع” رئيس الحكومة في إجراء التّحوير مكرّرا قوله بأنّ هذا التّحوير لا يستحقّ الدخول في مشاورات قد تساهم بدورها في مزيد إضاعة الوقت، فعن أيّ وقت يتحدّثون إن لم تكن عقارب ساعتهم معدّلة على جهات غير الجهات الموقّعة على وثيقة قرطاج بالذات؟
يبدو أنه بعد التقاء “الخطّين المتوازيين” وبعد أن أصبحت مشاركة النهضة في الحكم تخدم مصلحة البلاد ولا تُفرغ الانتخابات من محتواها كما أوهم نداء تونس ناخبيه بذلك، صار كلّ شيء جائزا من قبل هذا الحزب الذي لم يتردد مؤسسه يوم سئل عن شق من المستقيلين منه فأجاب أنّ الاستقالة من الحزب خيانة مؤتمن. وردّ عليه يومها أحدهم خيانة مؤتمن أفضل من خيانة وطن في إشارة إلى عدم الالتزام بالمشروع الوطني الذي بشّرت به الحركة.
وقد جاء الشّرح ضافيا من أستاذ القانون وعضو المحكمة الإفريقيّة لحقوق الإنسان والشعوب القيادي والمؤسّس رافع بن عاشور الذي قال بوضوح في حوار صحفي “إذا تمّت الاستقالة فهي أشبه ما تكون بخيانة مؤتمن باعتبار أنّ انتخاب الشعب لهؤلاء لم يتمّ لصفتهم الشخصيّة ولكن لوجودهم على قائمات نداء تونس”.
وإذا ما اعتمدنا المقارنة والقياس، وهو منهج قانوني وسياسي أيضا، فإنّ الأحزاب والمنظّمات الوطنية الموقّعة على وثيقة قرطاج ملتزمة بالبعد التشاركي وبالشّرعية التوافقية وبالتالي فإنّ تجاوزها وسحب البساط منها ومباغتتها بالتّحوير الحكومي ينزع عنها إحراج الالتزام بالتوافق والتّشاركية ويضع البلاد أمام كفّ عفريت كما يضع التوانسة أمام مسؤوليّاتهم في التمسّك بأهداف ثورتهم وحقّهم في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، دون أن ننسى نصيب الاتحاد العام التونسي للشغل بالذات مما دُبّر ويُدبّر له، وهو موضوع جدير بالمتابعة بل، هو في تقديرنا أولويّة وطنية ونقطة الانطلاق في الإنقاذ الحقيقي للبلاد والعباد.
مراد علالة