في ذلك الجو الصاخب في ليلة الرابع عشر من جويلية فوق قناطر نهر السان في فرنسا، تشتعل الأضواء وتتزيّن سماء باريس بألوان الفرح والعيد، وتُضاء السماء بقبس الشماريخ الملوّنة بملايين الألوان كأنّما حديقة معلّقة في سماء فرنسا في ليلها الصيفي وعيدها الجامع لمعنى الأخوة والحرية والعدالة، في ذلك المشهد المربك من فيلم “عشّاق القناطر الجديدة” سيناريو وإخراج “ليوس كراكس”، وتمثيل الرائع “دوني سلافان”. في لحظة تنخطف فيها الروح والأبصار بجمال الألوان، تتجلّى معاناة المشرّدين ومن لا سكن لهم ولا بيت. في ذلك الوهج الأخّاذ يخرج علينا صوت فيروز “جايبلي سلام عصفور الجنانين جايبلي سلام”، يزيّن جنانين الرّوح حزنا وطربا.
ما هذا الخلط العجيب الذي أصاب خلايا دماغي؟
يُطلّ علينا علي اليحياوي بمسرحيته “رايونو سيتي”، هذا الفتى أربك حواسّي وأخرج معظم المقاييس من دائرة المنطق والقراءة.
المشهد الأوّل صورة لقنطرة تطلّ كنافذة على كومة حطام وبقايا خراب، يصّاعد منها دخان، هو في الحقيقة شواء الروح المحترقة في زوايا النّسيان والتّهميش، تفوح منها رائحة الفقر والعوز والجوع الكافر والأمراض الجسديّة والاجتماعية والنفسيّة. هناك في تلك الزوايا يعشّش الحزن الكاوي والإحساس بالقهر الخانق، والانبتات حيث لا وطن تؤوب إليه ولا بيت.
“سبحانك.
كلّ الأشياء رضيت سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان !!
وقنعت بكون نصيبي في الدنيا.. كنصيب الطير
ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان !!
وتعود إليها.. وأنا ما زلت أطير”.
في هذا الوطن المحشوّ بالألم الفضفاض بعد ثورة آلت إلى أعدائها يغمس علي اليحياوي يده عميقا في “قعر الخابية”، خابية المجتمع ليستلّ من رحم المدن “الكذّابة”، المدن التي تَعِدُ في ظاهرها بالرّفاه، ليخرج لنا حيّا شعبيا، هو اختزال لوجع الإنسانيّة المسحوقة تحت رحى الصّمت، ليضعنا أمام ذواتنا عراة حفاة بلا مأوى، يترصّدنا ناب الجوع الأصفر في كل زاوية من زواياه. ويتلقّفنا الإدمان على “الكول فور” والكحول، والإدمان على الضّياع والوهم و”الحرقة” والكفر بالوطن والانتماء.. لقمة سائغة في فم الإرهاب الأعمى..
في ذلك العالم الرّهيب المخيف المفجع، يستدعي علي اليحياوي بروح المبدع الخلاّق، الشّعر، والرّقص والرسم والموسيقى والسّيرك والسينما.. يستدعي كلّ الفنون، كلّ جماليات تلك الفنون ويصبّ عليها ماء الحياة برفق، فتتجسّد على ركح صغير عوالم وشخوص وآلام وهموم وانفعالات وخيانات وقتل وحب وجنس وبهجة وانكسارات تنوء الجبال بحملها، فيورّطنا فيها ويدخلنا بسلاسة السّاحر وخبثه الفنّي الخلاّق في تلك المناخات، حتى أنّي أثناء العرض كنت أتحسّس أناملي ويدّي ووجهي هل أنا هنا في صفّ الجمهور، أم هناك في قلب الرّكح والحركة والصورة التي تُفَتِتُ الضّلوع جمالا وحزنا..
ما الذي يحدث أمامي على الرّكح؟
إنها السينما المباشرة والحيّة من توليف وتركيب وتسبيق وتأخير وحركة وتلاعب بالزّمن وبالأضواء وبالخطاب وبالشّخوص وبالأحداث.. في لحظة سهو وأنا جالسة في حضن متعة الفرجة جالت بخاطري تلك العوالم والمناخات السينمائية وتنشّقت تلك الرّوعة التي رأيتها في “عشّاق القناطر الجديدة”. وفي “علي زاوة” وفي الخبز الحافي لمحمّد شكري. إنّ علي اليحياوي في مسرحيته “راينو سيتي” يكتب بلغات متعدّدة في نص واحد. كتبها بلغة السّينما والرّواية والرقص الغجري وبالشعر وبالنثر وبالموسيقى، جمع كلّ تلك العوالم ليرجّنا ويضعنا أمام أنفسنا الآن وهنا.
يحدث هذا في غفلة منّا وأمام أعيننا ونحن ممّا نحن فيه هائمون. ما أوجعنا وما أحزننا أمام صورتنا في ريونو سيتي، “يا حكّاما مهزومين ويا جمهورا مهزوما”.
بتواضعه الخلاّق أطلق صرخته الصّادقة والحارقة “يلزمنا ناقفوا لتونس”، إنّها صرخة الشهداء في صمت المقابر، يرجع صداها في ضمائرنا ومبادئنا ونبض دمائنا..
شكرا لمهرجان المسرح الحديث بالقيروان في دورته الثّالثة والعشرين الذي أعاد إلى المسرح وَهْجَهُ وسطوته باختياراته للأعمال المسرحيّة الجيّدة.
مسك الختام
أصدقائي الممثّلين في “رايونو سيتي”، لكم نشوة الخلق ولنا لحظة المتعة. أنتم الخالدون ونحن العابرون، شكرا لكم على كل ما وهبتموه لنا من فرح ومن شغف ومن حزن ولوعة وعرق وجهد جهيد.
وهيبة العبيدي