كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تعليق أو “تأجيل” (حسب عبارة السيدة لمياء الزريبي وزيرة المالية) صندوق النقد الدولي صرف القسط الثاني من القرض الذي كان من المفروض أن يكون حصل خلال شهر ديسمبر الماضي. وهو القرض المقدّر بـ2,9 مليار دولار والذي تمت الموافقة على منحه لتونس منذ شهر جوان الماضي حيث تمّ صرف القسط الأول منه، أي ما قدره 320 مليون دولار مباشرة بعد الإمضاء، على أن تأتي بقية الأقساط تباعا.
وقد برّر الصندوق هذا التأجيل بعدم تقدّم تونس بما فيه الكفاية في تطبيق “الإصلاحات” التي تعهّدت بها والتي ستجعلها قادرة على الإقلاع وخاصة على تسديد هذا القرض في آجاله. بل إنّ بعثته التي كان من المقرّر أن تزور تونس للتباحث حول صرف القسط الثالث قرّرت من جانب واحد عدم المجيء لأنها اعتبرت أنّ تونس لم تتقدّم في إنجاز التعهّدات، والمقصود بها خاصة تقليص كتلة الأجور في القطاع العمومي وهو ما كان يرمي إليه برنامج عبيد البريكي للتقاعد المبكّر (50 ألف موظف سنة 2017 و200 ألف في أفق 2020)، وكذلك خوصصة البنوك الوطنية (البنك الوطني الفلاحي، الشركة التونسية للبنك، بنك الإسكان) بالتفريط في نصيب الدولة فيها للخواص، بعد أن كانت الدولة صرفت لها سنة 2016 مبلغ 700 مليار من المال العام لتحسين أوضاعها وجعلها قابلة للبيع.
وهي ليست المرّة الأولى التي تجد البلاد نفسها عرضة لابتزاز هذه المؤسسة التي تستغلّ صفة المانح لتفرض على تونس وعلى غيرها من البلدان التي تضع نفسها تحت رحمتها لتفرض عليها مزيدا من الإملاءات وتطبيق “الإجراءات الموجعة” التي تتضمّنها وصفاتها.
فقد عاشت مصر جدلا من نفس القبيل خلال الأسابيع الأخيرة بعد الانهيار المفاجئ لسعر صرف الجنيه الذي تعهّدت الحكومة المصرية بتحريره كبند من بنود الاتفاق للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، بل إنّ خبراء الصندوق ذاتهم هالهم الأمر وأعلنوا أنهم لم يكونوا يتوقّعوا مثل هذا الانهيار بمثل هذه السرعة. إذ أنّ الجنيه فقد أكثر من نصف قيمته في ظرف بضعة أشهر فقط. وكانت الحكومة المصرية تعهّدت كذلك باتباع سياسة تقشفية صارمة في القطاع العمومي طبعا، تقوم على تقليص حجم النفقات بما يعني ذلك من تحجيم لنفقات القطاعات الاجتماعية من صحة وتعليم وغيرها، وكذلك التفريط في عديد المؤسسات التي تملكها الدولة للقطاع الخاص وللأجانب، وخاصة منها المؤسسات البنكية والبترولية.
أمّا زامبيا التي يعاني اقتصادها من النتائج السلبية لانهيار أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية، فإنها سعت في المدّة الأخيرة إلى الحصول على موارد تمويل إضافية، ونظّمت للغرض مثل تونس مؤتمرا دوليا للاستثمار لم يفِ بالحاجة. فسعت إلى التوجه مجددا إلى السوق الأوروبية التي وفرت لها بين سنتي 2012 و2015 سيولة مهمّة في إطار ما يسمّى بـ”السندات الأوروبية”. إلاّ أنّ صندوق النقد الدولي سارع بتقديم النصح، محذّرا زمبيا من العودة إلى السوق الأوروبية نظرا إلى ارتفاع سعر الفائدة، وعرض خدماته. وبالفعل شرعت حكومتها في مفاوضات مع هذه المؤسسة للتوصل في أقرب الآجال إلى اتفاق للحصول على قرض بقيمة مليار دولار قبل نهاية السداسية الأولى من هذا العام.
وفي كوتونو، أعلن “نوربارت تُوِي”، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي أنّ المؤسسة “قرّرت منح البينين قرضا قيمته 150 مليون دولار على امتداد السنوات الثلاث القادمة لمساعدة الحكومة على وضع برنامج “للإصلاح”. وهو برنامج “يسعى إلى تحسين ظروف عيش السكان والحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى… وتطوير مساهمة القطاع الخاص في خلق الثروة”.
وشهدت جمهورية الكونغو خلال السنتين الأخيرتين أزمة اقتصادية خانقة من بين أسبابها انهيار أسعار النفط، لذلك سارع صندوق النقد الدولي بإرسال بعثة مهمّة أجرت مباحثات في العاصمة برازافيل من 20 فيفري إلى 8 مارس الحالي لتعدّ مخطّطا للإنقاذ أو بالأحرى للانقضاض على هذا البلد الذي بلغت نسبة النموّ فيه 6 ℅ سنة 2014، وانحدرت إلى 1,2 ℅ سنة 2015 و2,6 ℅ سنة 2016. والأخطر من ذلك أنّ نسبة الدين بلغت خلال السنتين الأخيرتين 77 ℅ من الناتج الداخلي الخام. وأمام هذه الوضعية الكارثية، أصدر الصندوق وصفته المعتادة: الضغط على المصاريف العمومية بالتقليص في عدد الموظفين وتوفير مزيد التحفيزات للقطاع الخاص ليأخذ المكانة التي “يستحق” في النسيج الاقتصادي.
وتتعرّض نيجيريا التي تُعتَبر ثاني قوة اقتصادية في إفريقيا إلى ضغوطات من كلّ حدب وصوب للجوء إلى صندوق النقد الدولي لمواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تشهدها منذ سنتين نتيجة انهيار أسعار النفط. إلاّ أنّ حكومتها تواصل رفض هذا الخيار. إذ صرّحت وزيرة المالية في الحكومة النيجيرية “كيمي أديوسان” ردّا على توصية من البنك الإفريقي للتنمية تدعوها إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لتغطية عجزا محتملا في ميزانية السنة الجارية ما يلي: “لن نلجأ إلى هذه المؤسسة إلاّ في حالة عجز كبير في ميزان الدفوعات، وهو ليس واردا الآن. أمّا مشكلنا اليوم مع الميزانية فهو مسألة جبائية بالأساس، ونحن بصدد إيجاد الحلول لها… كما أننا بصدد وضع جملة من الإصلاحات بمحض إرادتنا، لم يُملِها علينا الصندوق لأنّ النيجيريين حريصون على الإبقاء على مصيرهم بأيديهم”.