إنّ استقلال الشّعوب والأمم هو عنوان وجودها وجوهره. ويمثّل الاحتفال بعيد الاستقلال لمن شاء له التاريخ أن يرزح يوما ما تحت حذاء المستعمر أكثر الأعياد قيمة ودلالة. ويفترض أن يكون الأمر كذلك بالنسبة إلينا في تونس التي وبالنظر إلى نضال شعبها المرير ضدّ الغزاة والمستعمرين والوافدين عليها من الخارج للسيطرة عليها من أجل الحرية والاستقلال يكتسي هذا العيد أهمية خاصة. غير أنّ احتفالنا بهذا العيد تمتزج فيه مشاعر الفرح والنخوة بمنغّصات كثيرة ناجمة عن عوامل كثيرة، منها ما يتّصل بملابسات التاريخ ومنها ما هو وليد الواقع الاقتصادي والسياسي الراهن.
فبصرف النظر عمّا شاب بروتوكول الاستقلال الممضى بين تونس والمستعمر الفرنسي من نقائص وثغرات كانت سببا في نزاعات وتصدّعات في الحركة الوطنية وقيادتها آنذاك (الخلاف داخل حزب الدستور حول مغزى الاستقلال الداخلي) فإنّ ما يلمسه الشّعب التّونسي وهو يحتفل يوم 20 مارس من كلّ سنة بعيده الوطني يشرّع له طرح السؤال: إلى أيّ مدى يمكن أن نعتبر بلادنا قد حقّقت استقلالها الفعلي؟ لا بل يفسّر إلى حدّ بعيد رفعه شعار “شغل حريّة كرامة وطنيّة ” أيام الثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي.
فالمعطيات الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية والثقافية الماثلة اليوم أمامنا ومنذ انتصاب نظام الحكم سنة 56، تؤيّد كلّها أنّ استقلالنا منقوص وشكلي. فعلى الصعيد الاقتصادي تتجلّى تبعيّتنا للخارج، وبصفة أدقّ لفرنسا والاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بصفة مباشرة أو عن طريق المؤسّسات الماليّة والتّجاريّة العالميّة الكبرى، في أكثر من مظهر أبرزها المديونيّة.
لقد وُضع التصوّر العام لبناء الاقتصاد التونسي وخطّة التنمية ضمن التقسيم العالمي للعمل والإنتاج الذي تتحكم فيه كبريات الدول الرأسمالية. وتحتلّ تونس في هذا التقسيم موقع الاقتصاد الريعي المتخلّف التابع الذي يختصّ في إنتاج وتصدير المواد الاستخراجية وبعض المنتوجات الفلاحية وتوريد كلّ حاجياته الأخرى من مراكز الإنتاج الرأسمالي العالمي. وبناء على ذلك منعت بلادنا من تطوير صناعة محلية ثقيلة كانت أو خفيفة أو تحويلية أو غذائية إلاّ ما اقتضته مصالح الرأسماليين في إطار إعادة توطين الاستثمارات لعوامل تتّصل بنسبة الربح ومقتضيات احترام البيئة في البلدان المصنّعة وغيرها من الأسباب (النسيج والمواد نصف المصنعة اللاّزمة للواردات الخ…). وبناء على ذلك أيضا حُكم على اقتصادنا أن يظلّ دوما اقتصاد مؤسسات صغرى ومتوسطة عاجزة عن خلق الثروة ومراكمتها وتوفير الشغل وتوفير الوفرة الاقتصادية لصالح الاستهلاك المحلي. وهو ما يجعل نموّ الناتج الداخلي الخام ضعيفا وما يجعل التنمية في مفهومها الشامل غائبة. ونتيجة لذلك بقيت بلادنا في حاجة ماسة ومستمرة إلى الموارد المالية لتمويل أبسط الطلبات الاجتماعية وبالتالي اُضطُرّت دوما إلى البحث عن مصادر تمويل من الخارج سواء في شكل استثمارات أو عن طريق القروض.
لقد تحوّلت المديونية فضلا عن كونها معطّلا للتنمية إلى عنصر هيمنة على بلادنا وأداة للتحكم في الاقتصاد ومدخل لفرض إملاءات موجعة وتنفيذ ما يسمّى بالإصلاحات التي ليست سوى عملية تدمير لما أمكن بناؤه من مؤسسات وهياكل بتضحيات كبيرة. وفوق كلّ هذا مكّنت البلدان والمؤسسات المقرضة من أرباح طائلة دفعها شعبنا من عرقه ودمه كان من الممكن توظيفها لبناء أسس اقتصاد منتج وموجّه لخدمة الحاجيات الداخلية. ومع تفاقم حجم المديونية (64 % من الناتج الداخلي الإجمالي هذه السنة) بات اقتصادنا مهدّدا بالانهيار لأنّ مثل هذه النسبة، فضلا عن كونها تعطّل النمو، لها تداعيات أخرى على الموازنات المالية العمومية وعلى الميزان التجاري وعلى قدرة الدولة على توفير الخدمات العمومية (الصحة والتربية والسكن الخ…) وعلى تمويل الاستثمار وتمويل النفقات العامة والاجتماعية.
هذه هي القاعدة المادية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تمرّ بها بلانا منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي والتي تقع معالجتها كلّ مرة بطرق تلفيقية واعتباطية وبوصفات مستوردة من الخارج ومملاة خاصة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. وما لم يقع تغيير جوهر الخيارات الاقتصادية المتّبعة سيكون من المستحيل الخروج من الأزمة العامة التي لا تقتصر على الاقتصاد فقط وإنما تمتدّ إلى كلّ ما يهم الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية والأخلاقية.
غير أنّ الائتلاف الحاكم الحالي، مثله مثل الحكومات التي سبقته منذ عقود، وبحكم طبيعته وقناعاته، يمضي اليوم في اتّباع نفس الاختيارات ولا يتورّع عن عقد الصفقات المهينة مع صندوق النقد الدولي (16 ماي 2016) ومع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بوقاحة غير مسبوقة لبيع البلاد ورهن مستقبل الشعب والأجيال القادمة. بل لم تعد الحكومة تستحي من الاعتراف بأنها تطبّق الإملاءات الخارجية بتعلّة صعوبات الظرف الاقتصادي المحلّي والدولي وبحجّة الانفتاح والاندماج بالمنظومة الرأسمالية العالمية.
في مثل هذا الواقع نحتفل اليوم بعيد الاستقلال. واقع يطرح وبشكل حادّ مسألة تحرير تونس من ربقة الاستعمار الجديد والقضاء على كلّ مظاهر التّبعيّة في بعدها الاقتصادي والسياسي والثقافي حتى تستردّ السّيادة الوطنيّة معانيها ويكون لها مفعول ملموس في حياة التونسيّات والتّونسيّين.
جريدة صوت الشعب: العدد 237