تطرحُ الشعريّة العربيّة الحديثة والمعاصرة عديد الإشكاليّات من ناحيتين: الأولى نابعة من محاولتها التموقع داخل مشروع حضاريّ “مغاير” (لم يتحقّق تمام التحقّق داخل شرطه التاريخيّ) يسمحُ لها بالإجابة عن أسئلة مشروعيّتها وعلاقتها بالتـراث وموقفها منهُ استمراريّةً أو قطيعة (ابستيمولوجيّة)، والثانيّة وثيقة الصّلة بسؤال الشكل الّذي يمكن أن يوفّر الممكنات الجماليّة القادرة على استيعاب هذا الموقف وهذه الرؤية.
ولئـن تجاوز الشعر العربيّ الحديث الناحية الأولى بدعوى أن الشعر العربيّ “لا ينتظر حداثة دولته كي يكون حديثا” على حدّ عبارة الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش في إحدى حواراته، فإنّ سؤال الأشكال الشعريّة، أو سؤال العلاقة المفترضة بين الشكل والمضمون ظلّ راهنا وإشكاليًّا إلى أيامنا هذه.
ولمّا كان الشعرُ منفلتا – بطبيعته المتجاوزة – من كلّ تحديد مُسبقٍ، راوحَ الشعرُ العربيّ أمكنتهُ الحداثيّة وتبلورَ داخلَ مشروعيْـن كبيـريْن: الأوّلُ مشروع القصيدة التفعيليّة التـي تقتـرحُ حُريّة داخل النظام الشعريّ التراثيّ (العروض)، والتـي شهدت بدورها مرحلتين كبيـرتيـن (مرحلة الرواد متمثلة في السيّاب وبلند الحَيْدري ونازك الملائكة وأحمد عبد المعطي حـجازي وصلاح عبد الصبور وغيـرهم؛ ومرحلة عرف فيها شعر البيت الحُرّ أوْجهُ مع كثيـر من الشعراء الذين يمكن أن يُعدّ محمود درويش وسعدي يوسف أحدَا أهمّهم ذكرًا لا حصرًا).
وأمّا المشروع الثاني فمشروع قصيدة النثـر التـي طرحت منذ الدعوة إليها في صفحات مجلّة شعر (1961) أكثـر من إشكال إيديولوجـيّ وشعريّ لتضمّ أكثـر من تجربة يمكن أن نذكر منها: توفيق صائغ وأدونيس وأنسي الحاج وسركون بولص وبسام حجّار ووديع سعادة وغيـرهم.
وبعيدا عن التأريخ للشعر العربيّ الحديث وعن أشجاره التي قد تحجبُ غابتهُ الكثيفة يمكن في خضمّ هذا التنازُع أن نلاحظ ملاحظتيْن أوليين: الأولى، أنّ القصيدة التفعيليّة بمختلف مراحلها كانت أقربَ إلى التمثّل النقديّ من ناحية ارتباطها بالمرجعيّة العربيّة و”نحوَ الشعر” (جاكبسون)، وبنيته العروضية والوزنية والذاكرة الإيقاعيّة العربيّة، الأمر الّذي سهّلَ على الدّاعين إليها تبريرها من ناحية، وبلورة اقتـراحهم الحداثي داخلها من ناحية أخرى. وأمّا الملاحظة الثانية فمتعلّقة بقصيدة النثـر الّتي وإنْ تمَّت محاولة تلـخيصُها في استنتاجات الباحثة الفرنسيّة سوزان برنار على أنّها “قطعة نثـر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور (…) وخلق حرّ، ليس له من ضرورة غيـر رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد” (1) وفـي المحاولات التأسيسية التي نجدُ صداها في ما يقوله أنسي الحاج في مقدّمة “لن”: ” لتكون قصيدة النثـر قصيدة حقًّا لا قطعة نثـر فنية، أو محمّلة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز والتوهج والمجانية” (2)، فإنّها ظلّت تبحثُ عن آفاقها داخل ممكنات الشعر اللامتناهية، وداخل تعريفها غيـر المكتمل في المستوى النظريّ.
في خضمّ مجمل هذه الإشكاليّات، لم تكن قصيدة النثـر التونسيّة خارجَ سياق الأسئلة الجوهريّة للـحداثة، بل واكبتها تفاعلا وتأثيـرا وتأثّرا، لتبـرز تجارب وإن لم تنتم إلى الجيل نفسه، فقد أسّست حسب أحد الدّارسين لـ “إنشائيّة جديدة تنهضُ نقيضا للإنشائيّة السائدة بكلّ أصنافها من كلاسيكيّة وكلاسيكيّة جديدة (…) لتكون شبيهة بالشعر الدّادائي لدى جماعة وبالشعر السرياليّ لدى جماعة أخرى” (3).
غيـر أنّ هذه الملاحظة على أهميّتها لا تنفي مرحلتيْـن مرّت بهما هذه الإنشائيّة: مرحلة تحسُّس أولى غلبت عليها الهواميّة والإبهام وما سُمّي بالـ”بلاغة الجديدة” التـي قامت على نقد بعض مرتكزات النظرية البلاغية العربية القديمة (مثل قُرب المأخذ عندما يتعلّق الأمر بالتشبيه والاستعارة) والمراوحة بين النثـريّة ومحاولات التوقيع داخل شكل النثـر، ومرحلة تبلوُر ثانية تخلّصت فيها هذه الإنشائيّة من نثريّتها ومن لهاثها وراء إيقاعها الخارجـيّ، لتشمل بعض الأصوات المهمّة في الشعريّة التونسيّة المعاصرة مثل فتحـي قمري ومنصف الخلادي وعبد الفتاح بن حمودة وزياد عبد القادر وأنور اليـزيدي ومحمد العربي وأمامة الزائر وأشرف قرقنـي وغيـرهم. ورغم ذهاب البعض إلى تقسيم هذه الكوكبة من الشعراء إلى جيل تسعيني وجيل جديد (برز في العقد الأخيـر وما تلاه) فإنّ هذا التحقيب الزمنـيّ Diachronique لا ينفي انتماء هذه التجارب إلى حساسيّة مشتـركة داخل أفق جماليّ مُشترك (دون أن ينفي ذلك خصوصيّة كل شاعر طبعا).
ولا تخرجُ تجربة الشاعر التونسيّ رضا العبيدي عن هذا السياق، إذ نجدُ في نصوص مجموعته الأولى “الوردةُ ملء الليل” أثرًا لانفتاح الشعر على منابع أخرى مثل الفن التشكيليّ والسينما والقصّة القصيـرة، لتأتي مجموعته الثانية المعنونة بـ “فوق رصيف بارد” (4) استكمالا لمشروع قصيدة النثـر وانفتاحا على هذه الإنشائيّة الجديدة. ولعلّ أهمَّ ما يلفتُ النظر في هذا السياق من خلال مجموعة رضا العبيدي سالفة الذكر، تشكّلها داخل ثلاثة محاور أساسيّة:
– الأوّلُ: لعبة الهامش والمركز، وفي هذا المستوى كثيـرا ما يتبادلُ الهامشُ دورهُ مع المركز (والعكس صـحيح) متصاديًا مع تغيّـر النظرة إلى الذّات نفسها، فهي ليست همَّ الشاعر المركزيّ وهي ليسَتْ ذاتا غنائيّة بالمعنى الكلاسيكيّ، بقدر ما هي عَرَضٌ وشرطٌ تاريخيّ وقارب تُحدّد متعلّقاته تمثّله للعالم، بل هي ظلٌّ، أو “مُجرّدَ ظلّ”:
“في بلاد النسيان عاشرتُ الظّلال/ حتّى صرتُ فردًا من عائلتها:/ أتكلّمُ لغة الصّمت / أتغذّى بالضوء / أتمدّدُ وأنحسرُ / وأسهرُ عملاقا يتراقصُ على الجدران / كلّما أنيـرت شموع ليل / في بيت منعزل” (ص10).
– الثاني: السرديّة المكثّفةُ وتعلقها مع مواضيع سيـريّة مختلفة، ويرتبطُ هذا المُستوى بالمحور الأوّل المذكور من ناحية أنّ تحوّلَ الّذات عن مركزيّتها يفتـرض رواية قصّة أخرى مغايرة، الأمر الّذي يمكن أن يتصادى مع ما يقترحهُ النّاقد الفرنسي ميشال كولّو في اعتبار هذا النوع من النّصوص مندرجا ضمن ما يُسمّى بـ”الغنائيّة الجديدة” Nouveau Lyrisme الّتي تقتـرنُ فيها عودة الشعراء إلى ذواتهم بالعودة إلى اليوميّ والهامشيّ والذاكرة التي لا تتشكّلُ في سياق هذه الغنائيّة فحسب، وإنما تتعالقُ مع مشهديّة أساسُها التفاصيل والتجوال بكاميرا يسلّط الشاعر عدستها كلّ مرة على موضوع مّا:
“الحمامة حطّت فوق جدار الحوش / حاولتُ ألا أتحرّك كثيرا / مخافة أن تطير / (…) / تسمّرتُ في مكاني كتمثال / (…) / لكنّها بدلَ أن تهبطَ / حدّقت في شبحي برهة / وكما لو أنها عرفت بأني لستُ صنما / رفرفت لتطير عاليا/ وسط دهشتي / ناثرة ريشا كثيرا ظلّ يتمايلُ طويلا في الفضاء/ قبل أن يتساقط / بالقرب من حبة القمح اللامعة / فوق كومة التراب / أسفلَ الحائط” (ص 36).
– وأمّا المحور الثالث: فهو نتيجة للتقاطعات الممكنة بيـن سرديّة افتـرضها تحوّل الذّات من المركز إلى الهامش، وسيريّة افترضتها هذه السرديّة المكثّفة، ومفادُ هذا الملمحِ الثالث تماهي الشاعر وتناظره مع موضوعاته، الأمر الّذي يجعلُ من النصوص متعدّدة الأصوات متشكّلة داخلَ حواريّة Dialogisme ينطلقُ فيها المعنى الشعريّ من الدلالة لينفتحَ على التدلال:
” كلّ صباح / أنا شجرة / أحتطبها / لصناعة مركب / لهجرتي السريّة.. / كلّ صباح أنا المرآة: / من أينَ لها الصورة؟ / كيفَ امتلكَتْها / قبل أن تكون الصورة / صورتي؟ / كلّ صباح / أنا إبهامي / مجروح بشفرة حلاقة/ وملفوف في غيمة بيضاء / تجدُ طريقها إلى حديقتي/ دون أن تمطر.. / كلّ صباح / أحتاج شجاعة بهلول/ كي أنحنيَ وسط الجموع / على الورقة الضائعة / مبلّلة بالمطر ” (ص 132).
وتعالقت مجمل هذه المستويات في أغلب نصوص “فوقَ رصيف بارد” داخل ثنائيّات عديدة مراوحة بين الدّاخل والخارج؛ والنور والظلمة؛ والشاعر والعالم؛ والوعي واللاوعي؛ والاتّصال والانفصال، لتشكّل ملمحا من ملامح حساسيّة مختلفة أساسها الانتقال من سيرة الذّات (أي مركزيّتها الغنائيّة بالمعنى الكلاسيكيّ) إلى سيرة العالم والأشياء. حساسيّة تحتاج مساحة أكبـر لدراستها وتمثُّلها وسبـر أغوارها.
—————————–
(1) سوزان برنار: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة د. زهير مغامس، دار المأمون، بغداد 1993.
(2) أنسي الحاج: لن، دار الجديدة، بيروت 1994، ط 3 (المقدمة).
(3) محمد صالح بن عمر: من قضايا الشعر الحديث والمعاصر في تونس، دار إشراق للنشر، تونس 2008.
(4) رضا العبيدي: فوق رصيف بارد، رسلان للطباعة والنشر، تونس 2017.
ناظم بن ابراهيم- شاعر وباحث تونسي تونسي
“صوت الشعب”: العدد 238