مرتضى العبيدي
سنة مرّت على انتخاب “باتريس تالون” رئيسا لجمهورية البينين، في هبّة وطنية لقطع الطريق أمام منافسه في الدور الثاني “ليونال زينسو” الذي لم يكن سوى مرشّح فرنسا، وهو الحامل لجنسية مزدوجة والذي عيّنه الرئيس المنتهية مدّته “يايي بوني”، أسابيع فقط قبل الانتخابات، رئيسا للحكومة وخلفا له في تلك الانتخابات.
أغدق “باتريس تالون” خلال حملته الانتخابية الوعود على الشعب البينيني باتجاه القضاء على الفساد والفقر وتطوير الحياة الديمقراطية. فلماذا يهبّ الشعب البينيني اليوم ضدّ سلطة الرجل وضدّ ما يعتزم تمريره من “إصلاحات موجعة”؟
وحتى تكون الصورة أوضح على ما آلت إليه الأوضاع اليوم، نورد مقتطفا من خطاب ألقاه “باتريس تالون” نفسه يوم 4 مارس الجاري أمام جمع من أعيان البلاد وملوك القبائل:
“إنّ الأوضاع في البلاد صعبة للغاية. فظروف الحياة قاسية، ولقمة العيش صعبة المنال، ولا تتوفّر فرص عمل للعاطلين… وقد كنت وعدت بتغيير هذه الأوضاع، لذلك فأنا أرجوكم أن تواصلوا منح ثقتكم لي حتى أنجز ما وعدت به. إنّ الصعوبات التي يعيشها المواطنون تولّد لديهم نفاذ الصبر… وهو أمر مشروع. لكن البناء يتطلّب الكثير من الوقت، خاصة لمّا يتعلق الأمر بإعادة بناء ما خلّفه الفساد من دمار. الأمر الوحيد الذي يمكن إنجازه بسهولة هو التّنقّل في البلاد وتوزيع الأموال على المواطنين، لكننا لن نفعل ذلك لأنه حلّ سهل ومضرّ، رغم أنه بإمكاننا القيام به بصفة فورية. لكن لمّا نختار طريق البناء، لمّا نعتزم إعادة تأهيل القطاع الصحي أو التربوي وبناء المستشفيات والمدارس وتكوين الأطباء والمدرسين، كلّ هذه الأعمال تتطلّب وقتا طويلا للإنجاز. ولهذا السبب فأنا أطلب منكم مزيدا من الصبر ومواصلة وضع الثقة في رئيسكم…”
تلك إذن حصيلة سنة من الحكم “الرشيد”، لا كما وصّفتها أحزاب المعارضة، بل كما أقرّها الرئيس نفسه. فماذا أعدّ “باتريس تالون” وحكومته لمواجهة هذه الأوضاع الكارثية؟
ثلاثة أيام فقط بعد هذا الخطاب، صرّح وزير العدل في حديث إلى التلفزة، وكأنه يتحدّث عن حدث عادي، أنّ البرلمان البينيني يستعدّ للمصادقة على إدخال تحويرات مهمة على دستور 1990 تمّ إعدادها في السرية المطلقة بعيدا عن أيّ نوع من الاستشارة الشعبية، بينما كان “باتريس تالون” وعد خلال حملته الانتخابية أنه سيعرض على الاستفتاء الشعبي قبل موفّى سنة 2016 تحويرا دستوريا يحدّ من السلطات المطلقة للرئيس ويحدّد عدد الدورات الرئاسية في دورة واحدة، بما يمكّن من التداول على السلطة وتوسيع الممارسة الديمقراطية، ويحمي الحقوق والحريات المكتسبة.
لذلك ما أن بلغ إلى مسامع القوى الديمقراطية وعلى رأسها “الائتلاف الوطني للقوى اليسارية” مثل هذا المشروع حتى نادت إلى تنظيم اعتصام أمام مبنى البرلمان يوم 16 مارس أي يوم عرض مشروع قانون التنقيح على أنظار البرلمان. فتحرّكت ماكينة النظام الإعلامية للتقليل من حجم التحوير واعتباره مجرّد تحوير جزئي لا يمسّ من جوهر الدستور ولا يستوجب عرضه على الاستفتاء الشعبي. والحال أنه يخصّ 46 فصلا من الفصول الـ160 التي يحتويها الدستور، أي أكثر من رُبُع فصوله.
كما أنّ التحوير يتعلّق بفصول أساسية لها انعكاس مباشر على الحياة العامّة في البلاد، من ذلك اقتراح تمديد في فترة المحكمة الدستورية وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد من 6 إلى 9 سنوات، وكذلك التمديد في المدة النيابية لجميع الهيئات المنتخبة (البرلمان، البلديات، المجالس القروية والمحلية…) من 5 إلى 6 سنوات بما فيها الهيئات القائمة حاليا. كما يدخل الدستور تعديلات على تنظيم عمل الأحزاب والجمعيات وإجراءات بعث أحزاب جديدة أو حلّ ما هو قائم منها باتجاه مزيد التضييق عليها. والأخطر من ذلك كله التحويرات المقترحة بخصوص الفصول المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين باتجاه مراجعة المكاسب الحاصلة وفتح الطريق أمام أصناف التشغيل الهش وتدمير القطاع العمومي وتسهيل التفويت فيه للخواص.
لبّت الجماهير النداء وتجمّع أمام مبنى البرلمان في الموعد المذكور ما يزيد عن خمسة آلاف شخص، وانتظمت حلقات النقاش حول كيفية التصدي لمشروع التنقيح وكذلك لمشاريع القوانين الأخرى التي هي بصدد التمرير والمتعلقة خاصة بمدوّنة الشغل، والرّامية إلى تمرير مبدأ مرونة التشغيل في كل القطاعات بما في ذلك القطاع العمومي الذي أُغلق فيه باب الانتداب وسُنّت القوانين لجعله يسدّ حاجياته بأعوان وقتيّين ينتدبهم عبر شركات مناولة تنتمي إلى القطاع الخاص. وفي مساء نفس اليوم، تواصل النقاش في مقرّ “الائتلاف” بين الأطراف المكوّنة له، وهي أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات حقوقية ومنظمات اجتماعية وشبابية، وانتهى إلى الدعوة إلى إقامة “جبهة عريضة للخلاص الوطني ” تنقذ البلاد ممّا آلت إليه أوضاعها وتطرح خارطة طريق تخلّص البلاد من النظام المافيوزي لـ”باتريس تالون” وحاشيته، وتدعو إلى عقد ندوة وطنية “للهيئات الشعبية العامة” يعود إليها صلاحية إقرار التمشي المناسب.
ويبقى السؤال المطروح يتعلق بالدور الذي تلعبه القوى الثورية والتقدمية التي كثيرا ما رأيناها في المحطات السابقة ضعيفة التأثير، فتجد نفسها في أحسن الحالات تنتهج سياسة “أخف الأضرار”، وقطع الطريق أمام الأسوأ، وهي ستبقى كذلك ما لم تتمكّن من صياغة بديل ديمقراطي ووطني يقطع في آن مع النظام الديكتاتوري وحُماته من الامبرياليّين، ويلفّ الطبقة العاملة وعموم الكادحين حوله.