كما توقّعنا، ما انفكّت التحرّكات الاجتماعية تتصاعد من أسبوع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى وكذلك من فئة اجتماعية إلى فئة. فعلى الأقلّ توجد ثلاث ولايات مهمّة، وهي تطاوين والكاف والقيروان، تشهد غليانا كبيرا، وأعلنت إضرابات عامة، بعضها أنجز وبعضها مبرمج للأيام القادمة، والمطلب واحد بالنسبة إلى كل هذه الجهات وهو التنمية والتشغيل. وبالإضافة إلى الولايات الثلاث المذكورة، توجد تحركات في العديد من المعتمديات في جهات أخرى حول نفس الموضوع. وليس من المستبعد أن تتحوّل هذه التحركات إلى تحركات جهوية كما هو الحال في الكاف وتطاوين والقيروان.
وعلى صعيد آخر لم تتوقّف تحرّكات المفروزين أمنيا، من الشباب الطلابي المناضل، وعمال الحضائر. وفي الأيام الأخيرة التحق طلّاب الكليات الحقوقية، بهذا الحراك، بعد أن اتّخذت وزارة العدل قرارا يسدّ أمامهم باب الالتحاق بالمعهد الأعلى للقضاء، وبالتّالي باب التّشغيل في المستقبل.
وقد واجهت الحكومة هذه التحرّكات إمّا بالتّسويف وإمّا بالقمع وإمّا بالتّسويف والقمع معا. فالوفود الوزارية التي انتقلت إلى الكاف وتطاوين فشلت في إقناع المحتجّين، لأنها لم تقدّم إليهم إجراءات ملموسة وجدّية للنّهوض بجهاتهم، واكتفت بإعلان الوعود التي خبِر الأهالي زيفها، فرفعوا في وجهها شعار “ديقاج”. وفي تونس العاصمة واجهت قوّات البوليس الطلبة المحتجّين بالقصبة يوم الثلاثاء 11 أفريل الجاري بالقمع الوحشيّ. وتزامن هذا القمع مع تفاقم مظاهر ضرب حرية التعبير والإعلام. ففي مستوى رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة تتواتر تدخّلات “صنائع” عبد الوهاب عبد الله سيّء الذكر وأحفاده لفرض الصّمت على وسائل الإعلام، العمومية والخاصة، أو منع بث برنامج، أو توجيهها الوجهة التي تخدم مصالح السلطة وعصابات التّهريب والفساد المرتبطة بها.
وبعبارة أخرى فإنّ اتّجاهين رئيسيّين يرتسمان اليوم في أفق بلادنا، فمن جهة حركة اجتماعية ناهضة، محورها كالمعتاد التّنمية والتشغيل وهو أحد أهمّ محاور الثورة التونسية، ومن جهة أخرى ائتلاف حاكم يغرق أكثر فأكثر في العجز والفشل، بحكم اختياراته الرّجعية، واصطفافه وراء لوبيات الفساد والتهريب، وخضوعه المتزايد لمؤسسات النّهب الدولية، محوّلا تونس إلى مجرد مستعمرة جديدة تملى عليها الاختيارات والتوجهات، لتنفيذها تحت المراقبة المباشرة لهذه المؤسّسات. ومن البديهي أنّ ائتلافا حاكما في مثل هذا الوضع، لا توجد أمامه بدائل كثيرة غير سياسة القمع والتسلّط والالتفاف على أهم مكسب تحقق في الثورة وهو مكسب الحريات، لفرض سياسته على العمّال والكادحين والفقراء، على الشّباب المهمّش وعلى الطلاب والتلاميذ.
إنّ القمع والتسلط اللّذين يمارسهما الائتلاف الحاكم اليوم في مواجهة التحرّكات الاجتماعية ليس مجرّد “انحراف” أو “تجاوز”، بل هو نهج واختيار.
فهذا الائتلاف أعاد العديد من رموز الاستبداد في عهد بن علي إلى “الخدمة” في مختلف أجهزة الدولة للاستنجاد بخبرتهم في القمع. كما أنه يحاول بكلّ الوسائل إعادة وضع اليد على القضاء لاستخدامه، كما استُخدِم في العهد الدكتاتوري، أداة لضرب القوى الديمقراطية والتقدمية وتجريم النضالات الاجتماعية وتكميم الأفواه. وفي هذا الإطار يتنزّل الصراع حول المجلس الأعلى للقضاء. كما يتنزّل مشروع “المصالحة” الذي تحاول الرّئاسة تمريره بكل الوسائل، وهي التي فتحت بعدُ الباب أمام العديد من فاسدي نظام بن علي ومستبدّيه، للالتحاق بحزب نداء تونس” الذي أصبحت نواته الصّلبة من “التجمّعيين” السابقين.
ولكن هذا النّهج أو الخيار القمعي محكوم عليه مسبقا بالفشل، ولو كان ينفع لنفع بن علي الذي تمكّن من إقامة منظومة ديكتاتورية، استبدادية، رهيبة، أصبح يُستشهد بها في الخارج، ويُحتذى بها في العديد من البلدان ذات الأنظمة الديكتاتورية. ولكن عندما نهض الشعب في وجهها، انهارت بسرعة واضطرّ صانعها إلى الفرار. واليوم ما يزال هذا الشعب الذي أسقط بن علي على استعداد لمنازلة كل مستبدّ جديد وهو ما أكّده خلال الست سنوات الأخيرة. ولكن هذا غير كافٍ، فبلادنا تحتاج إلى الخروج من هذا الوضع، وتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية، بشكل حاسم، حتى تستقرّ، وتنهض، وترسي قواعد نظام اقتصادي جديد، يحمي سيادة البلاد، ويلبّي حاجات الشعب الأساسية، المادية والمعنوية، وفي مقدّمتها شغل يحقّق الكرامة، وتعليم وصحة مجانيان وراقيان، وبيئة سليمة.
هنا تكمن مسؤوليّة حزبنا، والجبهة الشعبية، في رسم أفق واضح للشّعب وفي الالتحام بقضاياه ولتنظيم صفوفه. وفي هذا السّياق لا يسعنا إلّا أن نستحضر ما قاله سائق سيارة أجرة لبعض قيادات الجبهة الشعبية: “لا فائدة في مزيد إقناعنا بأن الائتلاف الحاكم الحالي فاسد وفاشل وعاجز، فنحن نعاني يوميّا منه ونعرفه على حقيقته، ولكن أنتم، الجبهة الشعبية،” حدّدوا برنامجكم وإيجاوْنا”. هذا هو المطلوب من حزبنا ومن الجبهة الشعبيّة: برنامج عام وشامل ودقيق وعمل دؤوب في صفوف الشّعب، للارتقاء بوعيه وتنظيمه، والاتّجاه به ومعه نحو وضع حدّ نهائي للاستبداد والفساد والاستغلال الفاحش وإغراق البلاد في التبعية، وإقامة الجمهورية، الديمقراطية والاجتماعية التي تحقّق شعار الثّورة “شغل، حرية، كرامة وطنية”.