بعد أكثر من أسبوعين تستمرّ حركة الاحتجاج وتتّسع رقعتها كل يوم. فبعد تطاوين التحقت جهة الكاف بحركة الغضب ثم القيروان وجبنيانة من ولاية صفاقس. ودخلت الحركة الطلّابية من بوّابة طلبة الحقوق لتشنّ يوم الجمعة 14 أفريل الجاري إضرابا عامّا ناجحا رافقته مسيرات حاشدة بالعاصمة وصفاقس حيث اعتمدت قوات البوليس استعمال العنف المفرط ضد المتظاهرين. وتسجّل عديد الجهات الأخرى تحرّكات جزئية في سليانة المدينة والكريب حيث أغلق المحتجّون الطريق الوطنية عدد 4 وفي عين دراهم بولاية جندوبة والمكناسي وجلمة بولاية سيدي بوزيد ومناوشات أخرى هنا وهناك في كل جهات البلاد. وعادت الحركة الإضرابية لتشلّ إنتاج الفسفاط بالمظيلة من ولاية قفصة.
ولا ينتظر في قادم الأيّام أن تهدأ الحركة خصوصا وأن قطاعات أخرى تشهد حركيّة واسعة استعدادا لإضرابات قطاعيّة ستشمل على ما يبدو قطاعات التعليم الثانوي والأساسي وأخرى في صفوف أعوان المالية واستعدادا لتحرّكات ميدانية احتجاجية لعمال الحضائر صبيحة يوم الثلاثاء 18 أفريل أمام رئاسة الحكومة بمشاركة شباب المفروزين أمنيا.
تجتمع كلّ هذه المعطيات والمؤشّرات لتؤكد أن البلاد مقدمة على انفجار اجتماعي شامل تنبّأ الجميع بحصوله منذ الشّتاء الماضي. ويأتي هذا الانفجار كنتيجة طبيعية لما وصلت إليه الأوضاع الاجتماعية والمعيشية من تردّي. ذلك أن معدّلات البطالة عادت للارتفاع مجدّدا لتصل إلى مستويات أعلى ممّا كانت عليه سنة 2011 والفقر انتشر على أوسع نطاق وتراجعت المقدرة الشرائية بصورة ملحوظة جرّاء الارتفاع الجنوني لأسعار مواد الاستهلاك، وتردّت الخدمات الصحّية وخدمات النقل والسّكن والتربية والثقافة والخدمات الإدارية والعمومية. وفي كلمة تحوّلت حياة الفئات الشعبيّة إلى جحيم حقيقي.
وقد أثبتت الحكومة على مدى الأشهر التي أخذت فيها مقاليد الحكم أنّها عاجزة تمام العجز عن معالجة هذه المعضلات الاجتماعيّة بل وبدا في أكثر من مرّة وفي علاقة بأكثر من موضوع أنّها تسير عمدا باتّجاه تعفين أوضاع الاقتصاد ومزيد تعميق وإلقاء أثارها على الفقراء وذوي الدّخل المحدود وحتى شرائح واسعة من الطبقات الوسطى موظفين وفلاحين وأصحاب مهن.
ما تميّزت به الحكومة الحالية هو الدفاع علنا وبكل وقاحة على تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي والإقدام فعلا على إجراء الإصلاحات التي فرضها على بلادنا مقابل قرض بـ 2.9 مليار دولار تتسلّمه تونس على دفعات مشروطة بإحراز تقدّم في إنجاز الإصلاحات المذكورة. وغاب على الحكومة – أو هكذا خيّل لها – أن طاقة الشعب التونسي على التحمّل والصّبر لن تطول وأنّها لن تقدر على مزيد مغالطته بشعارات “الوحدة الوطنية” و”وثيقة قرطاج” ولا مزيد تصبيره بالوعود والتّسويف الكاذب.
لقد لمست الحكومة ذلك بالملموس من خلال المفاوضات التي أجرتها مع أهالي المكناسي، حاجب العيون، وتطاوين والكاف وهي تدرك اليوم أنّ هامش المناورة باتت شبه منعدمة. وبالمقابل أدرك المحتجّون أنّ الأمل في الحصول على مكاسب ملموسة – مهما كانت محدودة – في ظلّ هذه الحكومة ليس غير وهم وخيال. لذلك يبدو أن تصعيد الاحتجاج واتّساع رقعته ليس فقط مجرّد احتمال بل هو اتّجاه لا مفر منه. وحيال ذلك تنمو القناعة لدى أوساط أوسع فأوسع بأنّ رحيل الحكومة بات أمرا لا بديل عنه.
هذا من وجهة نظر الجماهير الغاضبة والتي تتّجه حركة احتجاجها نحو انتفاضة عارمة وفي نفس المنحى تتّجه الأمور حتى داخل أوساط من الحكم، وبصفة أدقّ في قصر قرطاج الذي أتى بيوسف الشاهد خلفا للحبيب الصيد على رأس الحكومة.
يتداول في كل مكان تقريبا أن علاقة رئيس الحكومة بالشقّ النافذ في نداء تونس قد تراجعت إلى أسوأ مستوياتها وأنّ نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي قد يكون اتخذ قراره باستبعاد يوسف الشاهد. وتسري أخبار كثيرة حول الأسماء المرشّحة لتعويضه على رأس الحكومة القادمة قبل نهاية شهر جوان القادم.
المنطق السليم يقتضي أن لا تشهد الحكومة مثل هذه القلاقل لأن البلاد في حاجة لفترة أطول من الاستقرار ولحكومة مستقرّة تستطيع مع الوقت تحقيق انتعاشة اقتصادية. ولكن منطق العائلة من ناحية وتعاطيها المزاجي والشّخصي والمصلحي مع شؤون الدولة ومؤسّساتها شاءت أن لا تكمل هذه الحكومة سنة كاملة من عمرها. كما شاءت الصراعات الخفيّة داخل الائتلاف الحاكم وخاصة بين النداء والنهضة وعمليّات الترصّد والمخاتلة أن تنحو مبكّرا نحو الإطاحة بحكومة الشاهد في إطار مناورة نصبتها النهضة لتعميق أزمة النداء وتخريبه حتى تدخل غمار الانتخابات البلدية بأوفر الحظوظ للفوز بها.
لا ريب أن حركة النهضة ستظلّ تبدي في العلن مساندتها للشّاهد فيما تحرّك له في الخفاء أعوانها وأدواتها لمحاصرته حتى يسقط من تلقاء نفسه فيستقيل، أو لتعميق الهوّة بينه وبين حافظ قايد السبسي فتقع الإطاحة به. لا شكّ أيضا أن هامش البحث عن غطاء سياسي مقنع لهذه العملية سيكون هذه المرّة صعبا بعد أن افتضحت شعارات “الوحدة الوطنية” على حقيقتها المخادعة وبعد أن تنحّت ورقة “قرطاج” عن عورة مدبري مكائد الحكم.
ومع ذلك فحكومة الشاهد ساقطة لا محالة ولا مفرّ لها من هذا المصير.
لكن هل سيكتفي الشعب التونسي باستبدال حكومة بأخرى على غرار ما حصل الصّائفة الماضية؟
بات واضحا اليوم بعد سلسلة الحكومات التي تداولت على قصر القصبة أن خلاص البلاد والشعب لا يكمن في تغيير الفريق الحكومي فقط بل أن التّغيير المطلوب في الحقيقة لوضع البلاد على سكّة الخروج من الأزمة الشاملة هو تغيير ينبغي أن يطال كلّ المنظومة الحاكمة بجميع مؤسّساتها رئاسة وحكومة وبرلمانا. فالمنظومة الناجمة عن انتخابات أكتوبر 2014 مثلها مثل منظومة أكتوبر 2011 هي منظومة رجعيّة عميلة ومعادية للوطن والشعب لا يهمّها غير مصلحة حفنة من السّماسرة والمتآمرين والفاسدين الذين “يجمعون المال ويكدّسونه” من عرق الشعب ومآسيه وعلى حساب حرمة الوطن وكرامته.
إنّ تغييرا لا يطال هذه المنظومة لن يتقدّم بالبلاد قيد أنملة ولن يخرجها من أزمة إلّا ليزجّ بها في مأزق أشدّ وأخطر. ولا أدلّ على ذلك من حال البلاد اليوم التي خال الشعب كلّه أنه بإزاحة بن علي سيستقيم حاله وتتحسن ظروفه فإذا به يجد نفسه في مطب جديد أعقد وأسوأ.
وتغيير هذه المنظومة لن يتم بغير ثورة جديدة غايتها العميقة تغيير البنية الاجتماعية التي سيطرت على دواليب الحياة منذ ستة عقود ونيف وتغيير منهج التنمية وبناء نظام حكم جديد تكون السلطة فيه للشعب مصدرا ومستفيدا.
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المأجورة المعروفة مذعورة وأن تُجنّد كلّ الأبواق الدعائية وأن تُحرّك كلّ الأدوات والأعوان لإثارة ضجيج كثيف حول “التّحول الديمقراطي والسّلمي” لحرف العمليّة الثورية التي تحتاجها بلادنا اليوم وفي مثل هذا الظرف الدقيق وللتّشويش على شباب تونس ونسائها وعمّالها وكل جماهير شعبها ولتبثّ في صفوفهم الشكّ والخوف من التّغيير المطلوب.
لكن الشعب التونسي الذي قدّم قوافل من الشهداء والجرحى في ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي أملا في نيل الحرّية والشغل والكرامة وتغيير أوضاع عيشه بصورة جذريّة استفاق بعد سنوات قليلة أن تضحياتها ذهبت أدراج الرّياح مقابل عودة الأزلام وخدم بن علي وأقذر رموز النظام السابق وتربّعهم على عرش الحكم ومؤسّسات الاقتصاد ومؤسّسات الدولة وأجهزة الإعلام. فهل يقبل أن يلدغ مرّة أخرى من جحره؟؟
القوى الثوريّة وكافة القوى المحِبّة لتونس وللشعب حبّا صادقا وفي مقدّمتها الجبهة الشعبية تتحمّل مسؤولية مساعدة الجماهير الشعبية الغاضبة والمنتفضة على تنظيم ثورتها ورسم طريق التّغيير الذي تروم تحقيقه وتحضير مؤسّسات حكمها البديل عن منظومة الخراب والفساد.
ومن لا يتّعظ من دروس التاريخ البعيد والقريب ومن تجارب الشّعوب لن يغفر له الوطن والشّعب تخلّفه عن مواعيد التاريخ الحاسمة.