التحرّكات التي تشهدها البلاد تأخذ منحى تصاعديّا وكذلك أشكالا نضاليّة مختلفة ومتطوّرة معلنة أن الوضع الراهن لم يعد قابلا للاستمرار بعد كل هذه الهزات التي تتوالى وتتلاحق كموج البحر وتنذر بقدوم العاصفة. هذا التّصعيد الشعبي قابله تصعيد حكومي بوسائل متعدّدة أبرزها طبعا سياسة تكميم الأفواه والقمع البوليسي كما جرت العادة في مثل هذه الظروف.
الحراك الاجتماعي لم تتوقّف وتائره منذ اندلاع الثورة ولا أدلّ على ذلك من الأرقام التي تبيّن أن عدد التحركات الاجتماعية في تزايد بشكل مطّرد. كيف لا والأسعار لم تتوقّف عن الارتفاع والقدرة الشرائية للمواطنين اهترأت وجحافل العاطلين عن العمل في ازدياد والعمّال يسرّحون بالآلاف والفلاحون مهدّدون بالإفلاس… الكلّ غاضب من أداء الحكومات المتعاقبة التي لم تغيّر سوى الأسماء وحافظت جميعها على أسباب الفقر والبؤس والخصاصة والحرمان والظّلم ونكد العيش وضيق الحياة للملايين من التونسيين: منوال التنمية والفساد. فهي تواصل نفس السّياسة الاقتصادية التي تعتمد بالأساس على الاقتراض الخارجي لمزيد الارتهان إلى المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي وبالتالي التفريط في السيادة الوطنية حتى تتمكّن القوى الاستعمارية من نهب المزيد من ثروات البلاد.
إن السّمة الأساسيّة والخيار الجامع لكلّ من حكموا تونس منذ إمضاء ما يسمى ب”بروتوكول الاستقلال” هو التفريط في الوطن قطعة قطعة لفائدة القوى الإمبريالية، وشعارهم الأوحد هو الفساد ولا شيء غير الفساد، لذلك نراهم يتستّرون على المافيات ويكرّسون نظام التهرّب الضريبي ويخرّبون الاقتصاد الوطني عبر التّوريد العشوائي ويفتحون الأبواب على مصراعيها أمام الشّركات الأجنبية لتنهش ما تبقّى من المؤسسات المحلية. إنهم لا يختلفون في شيء عن البايات لا من حيث الشّكل ولا من حيث المضمون، فنظامهم السياسي قائم على الولاءات والقرابات والمحسوبية وسياستهم الاقتصادية تعتمد على التبعيّة المفرطة للتداين والاقتراض الخارجي من أجل تغطية نفقات الاستهلاك خاصّة للمواد الكمالية المورّدة بالعملة الصعبة.
إنهم أحفاد الصادق باي ومصطفى خزندار، ينهبون خزينة الدولة على طريقتهما ويعبّدون الطريق أمام “كومسيون” جديد واستعمار جديد. فمن جهة نراهم يحاولون إنكار الأزمة وتجميل وجههم القبيح بأرقام زائفة تتعلّق بالتنمية التي لا يستفيد منها غير الأثرياء ولوبيات الفساد، وكذلك بالاعتماد على شهادات شركائهم على غرار مقرّر البرلمان بالمجلس الأوروبي ومبعوث الاتحاد الأوروبي، “جورج لوكايد”، وعمدة لندن، اللورد “أندرو بالملي”، الذين أدّيا مؤخّرا زيارة لتونس أين أغدقا عليهم كلمات المدح والإطراء علّهم ينقذا عرشهم وبالتالي مصالح بلدانهم. فالأول ادّعى أن تونس قادرة أن تكون شريكا في الديمقراطية والثّاني أشاد بتطوّر القطاع المالي للدولة التونسية وكذلك بنمو “الصّيرفة الإسلامية”. إذا يحاول كلّ منهما إنقاذ حكومة الشاهد اقتصاديا وسياسيا حتى تتمكّن من تخطّي الأزمة، وذلك على طريقة الرئيس الفرنسي الأسبق “جاك شيراك” صاحب الجملة الشهيرة “المعجزة التونسية”.
لكن هيهات! فقطار الثورة يضاعف من سرعته هذه الأيام وهو ماض بكلّ إصرار وعزم نحو المحطة النهائية. إنّ حكومات ما بعد 14 جانفي تعتمد الخداع والمماطلة لربح الوقت وترتيب البيت لكنّها لا تدرك أن حبل الكذب قصير وأنّ بيتها من قشّ سوف ينهار عليها عند أوّل عاصفة. نتذكّر جميعا كيف تنفّست حكومة “الوحدة الوطنية” الصّعداء على لسان ناطقها الرسمي بمجرّد أفول شهر جانفي ظنّا منها أن نبض الحراك الاجتماعي سوف ينخفض وأن “الموسم النّضالي” قد شارف على النهاية. لكن حينما أدركت أن تقديراتها وقراءاتها للواقع كانت خاطئة غيّرت جذريا خطابها وأساليبها، فأسقطت القناع وكشّرت عن أنيابها. فصارت تضيّق على الحريات الأساسية وحرّية الصحافة وتقمع التّظاهرات السّلمية وتزجّ بالشباب في السجون مستعينة في ذلك بقضاء تحت الطّلب.
لقد نسى هؤلاء الحكام أو بالأحرى تناسوا ما حصل لسلفهم بن علي لأنّهم ببساطة لا يتعلّمون من التاريخ. فليعلموا أنّه ما في كل مرّة تسلم الجرّة لأنّ التراكم الكمّي وصل إلى ذروته وأنّه حتما سوف يفرز نقلة نوعية. ذلك هو قانون التاريخ الذي لا يفقهون فيه شيئا.
فوزي القصيبي