توفيق بكّار، أبو النّقد الأدبي التونسي وأحد بناة الجامعة التونسية وأعمدتها، والمدافع الأبي عن استقلاليتها وعن حرية التفكير والإبداع والمؤمن بدور الثقافة والبحث الأدبي والعلمي في النهوض الاجتماعي والحضاري، يغادرنا وهو لم ينقطع عن الإبداع حتى آخر رمق.
اهتمّ الرجل، وهو اليساري الماركسي، اهتماما خاصا بالأدب التونسي ودرّسه وعرّفه وخدمه وأولاه المكانة التي يستحق. وفضله عظيم على العشرات من الكتاب والشعراء والباحثين التونسيّين الذين لولاه لما ذاع صيتهم أو على الأقل لما ذاع صيتهم على النحو ذاع.
درّسني في الجامعة في مطلع سبعينات القرن الماضي. وكان أستاذ شقيقي الراحل الطاهر الهمامي وصديقه وهو الذي قدّم أولى دواوينه الشعرية في غير العمودي والحرّ: “الحصار”. وكان حبّبني، وأنا طالب السنة أولى آداب عربية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية 9 أفريل، في الأدب التونسي…
في سنة 1973 انقطعت عن الدراسة لأعيش مدّة في السرية قبل أن يلقى عليّ القبض ويرمى بي في السجن. ولما غادرته في سنة 1980 التحقت من جديد بكلية الآداب بمنوبة ليدرّسني سي توفيق مناهج النقد الحديث.
ما زلت أذكر كيف كان استقبلني، في آخر السنة الجامعية 1981، بمنزله بـ «لافيات” ليساعدني على فهم ما فاتني من محاضرات بسبب تعكّر حالتي الصحية في وقت من الأوقات واضطراري إلى الغياب عن الدروس. وبعد أن شرح لي “شعريّة” رولان بارت، دعاني إلى كتابة تجربتي السجنية ووعدني بالمساعدة… أجبته مازحا أنّ هذه التجربة ربّما لم يحن وقت كتابتها لأنّ لا شيء يوحي بأنّها انتهت…
كانت محاضرات توفيق بكّار في الجامعة إبداعًا. لم يكن الفقيد مجرّد مدرّس للأدب أو للنقد الأدبي. كان، وهو يلقي الدرس، مجيئا وذهابا في القاعة كعادته، ينتج، بفضل ثقافته ومعارفه الواسعة، نصوصا إبداعية غاية في الرّوعة، بلغتها الجميلة التي يصقلها صقلا عجيبا، وأسلوبها المميّز، البسيط والمركّب في نفس الوقت، ومضامينها التقدّمية العميقة. كان التزام الرجل بقضايا الشعوب والطبقات والفئات الكادحة في كلّ الأزمان وبمبادئ العدل والمساواة والتقدّم الإنساني، لا لبس فيه.
وإلى ذلك فقد كان كلّ نصّ من نصوص توفيق بكّار التي يقدّم بها آثارا أدبيّة تونسيّة أو عربيّة يشكّل، بما فيه من عمق وإضافات، إبداعا مخصوصا، يمكن التّعاطي معه بشكل مستقلّ عن الأثر الذي كتب لأجله.
ولا أخفي أنّني كنت أحيانا أشتري بعض الآثار الأدبية لغاية مزدوجة، لأطّلع عليها ولأستمتع بنصوص توفيق بكار التي يقدّمها بها.
فما أروع، مثلا، ذلك النصّ الذي قدّم به الفقيد “متشائل” إميل حبيبي…قرأته وقرأته وقرأته ولم أملّ مطلقا قراءته، فكأنّني كلّ مرّة أقرأه لأوّل مرّة. سحرني توفيق بكار كما سحرني إميل حبيبي. لقاء بين قمّتي إبداع حول قضيّة فلسطين المغتصبة.
ما زلت أذكر أنّني ذات مرة عكست المنهج فقرأت تقديم توفيق بكار قبل أن أقرأ الرواية ذاتها، فما كان منّي إلاّ أن عدلت عن قراءة الرواية مباشرة لأواصل الاستمتاع بما كتبه فقيدنا عنها خوفا من أن يكون المقدّم أفضل من المقدَّم…
وإلى ذلك كلّه لا يمكن أن نوفي الرجل حقّه دون التذكير بمواقفه المبدئية من استقلالية الجامعة ومن حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي. كان لسانه وقلمه ينسابان دون تفكير في الرقيب، بل كان لسانه وقلمه عصيّين عن الترويض. ولا أتذكّر أن طالبا أو باحثا شعر به ذات يوم يتوجّس من فكرة حرّة، ثائرة أو متمرّدة أو مجدّدة…
توفيق بكّار رحل. ستفتقده الساحة الأدبية والتقدمية. ولكنّ روحه التي نفخها في إبداعاته، ستظلّ تحلّق بيننا قاهرة الموت والنسيان.
أمّا الأحياء من طلبته وتلامذته فليحفظوا وصيّته وليعملوا بها: “أوصيكم خيرا باللغة العربية”.
إنّها هويّتنا، فإن ذابت ذبنا وإن تفسّخت تفسخّنا وإن نهضت نهضنا.
تونس في 24 أفريل 2017