يوما بعد يوم تتجلّى لنا أكثر فأكثر معالم الصّورة البنفسجية لـ”نداء تونس” إذ سريعا ما تفسّخ لونه الأحمر، اللّون الرمزي للحزب، الذي اتّضح أنّه لم يكن سوى دبّاغ زال بزوال شعاراته الزائفة وأكاذيبه ومغالطاته المتتالية وليس لونا أصليّا مثل ذلك الذي يتحلّى به الثّوار والأحرار.
لقد اعتدنا على هذه الأساليب المخادعة التي تعتمدها قوى الثورة المضادة لتظليل الرأي العام حتى تجد موطأ قدم في المشهد السياسي الجديد وتتمكّن رويدا رويدا من التّحكّم فيه وإعادة بناء نظامها المتهاوي. لكنّ ألاعيبها هذه تنكشف سريعا في أوّل اختبار عند تمكّنها من العودة إلى السّلطة أين تجد نفسها أمام حتميّة الصّدام مع الجماهير الشّعبيّة نتيجة لمواصلتها نفس السياسات اللاّوطنيّة واللاّشعبيّة السّابقة. إنّ إدراك قياديّي “النداء” لهذا الأمر وتمثّلهم له بصفة جليّة جعلهم يسارعون بإعادة رسكلة أهمّ رموز التّجمّع وكوادره كي يحاولوا إسعاف وإنعاش حزبهم المحتضر في الانتخابات البلديّة القادمة.
الطيّر النّادر وتوفير شروط النّجاح
الأزمة الحادّة التي يعيشها هذا الحزب والتي حوّلته إلى شقوق متناحرة دفعت بقياديّيه أو ما تبقّى منها إلى محاولة إنقاذ هذا الكيان المتشظّي عبر إعادة رسكلة بعض رموز التجمع المنحلّ خصوصا بعد انسحاب وطرد الروافد “النقابيّة” و”اليسارية” منه. ونعني هنا جهاذبة البروبغندا الإعلامية الدعائية برهان بسيّس وسمير العبيدي الذين تخصّصا في مديح السلطان في إطار وكالة الاتّصال الخارجي التي كانت تُعنى بتلميع صورة الرئيس المخلوع والتي كان يديرها عبد الوهاب عبد الله سيّء الذكر، حيث كُلّف الأوّل بالشؤون السياسية بينما عُهدت إلى الثاني مهمة رئاسة المجلس الأعلى للكفاءات التابع للحزب. في خصوص بسيس، الذي عاود المجاهرة رسميا ببنفسجيّته منذ أن أعلن عن نيّته استضافة بن على للبرنامج التلفزي الذي كان ينشّطه، فإنه انخرط في مشروع إعادة المنظومة السابقة منذ مدة. أمّا العبيدي فإنّه تخفّى لسنوات ليُطلّ علينا فجأة في صورة “سبيدرمان” المنقذ. ما عساهما أن يقدّما إلى حزب متهاوي لا تتوفّر فيه أدنى مقوّمات النجاح؟
هل لديهما الوسائل الكفيلة بإنقاذ حزب يتخبّط في أزمة داخلية وأزمة حكم في حين أنّهما فشلا في إنقاذ نظام يتمتّع بترسانة إعلامية واتصالية متكاملة؟ أليس التعويل على جواد خاسر من قبل “نداء تونس” دليل إضافي على أنه يلعب أوراقه الأخيرة؟
قد يكون الأمر كذلك لو كانت نيّته تتّجه نحو بناء سياسية إعلاميّة واتّصاليّة ناجعة تنبني على آليّات علمية متطوّرة. لكن ليست الأمور كذلك، فالتعويل عليهما يندرج في إطار البحث عن تأمين أوفر شروط النجاح لسياسة الكذب والدّعاية. وهنا يمكن لنا القول أنّه أحسن الاختيار ووجد ضالّته المنشودة في هذين “الإعلاميّين” الذين لهما، كما أسلفنا، باع وذراع في هذا المجال. “حسن تدبير” حزب إعادة رسكلة التّجمّعيّين لم يتوقّف عند هذا الحد، لأنه يعلم علم اليقين أنّ التعويل عليهما في هذا الظرف أمر ضروري لكن غير كاف لأنه لا يمكن لهما إبراز “مهارتهما” والنجاح في مهمّتهما في مناخ سليم، لذا سعى إلى توفير ظروف النجاح لهما وذلك بتعفين وتسميم هذا المناخ مستعينا في ذلك بالهيئة العليا “المستقلّة” للانتخابات.
تنسيق وتوزيع للأدوار
هنالك تواريخ لجوجة تعصى على النسيان. ففي 15 مارس قرّرت الهيئة السياسية لنداء تونس، التي أعلنت عن انضمام بسيّس، إحداث “مركز للدراسات” ومواصلة “الانفتاح على الإطارات الوطنية المؤمنة بالمبادئ والتوجهات التي انبنت عليها الحركة” ودعوة الهيئة المستقلّة إلى الإسراع بتحديد الموعد النهائي للانتخابات البلدية “تجسيما للباب السابع من الدستور وتطلّعات شعبنا” وتنظيم المجالس الجهوية للتنسيقيات الجهوية أيام 24 و25 مارس و1 و2 أفريل “استعدادا للمحطّات السياسية القادمة”. ويوم 3 أفريل تحدّد الهيئة تاريخ الانتخابات البلدية. هل أنّ هذا التّزامن صدفة؟ قطعا لا، فالدّعاء كان مستجابا وبسرعة عجيبة بمجرد الانتهاء من وضع التّرتيبات الأخيرة. ليس هذا فقط، فكرم الهيئة “المستقلّة” ذهب إلى حدّ التّغاضي عن إعداد مجلة الجماعات المحلية حتى تحافظ المنظومة القديمة المعزّزة بإخوان النهضة على مواقعها وسلطانها والتي سوف تتقدّم إلى الانتخابات البلدية بقائمات مشتركة. وهنا لا ننسى طبعا أن نذكّر بالإعلان عن الجاهزيّة للبلديّات من قبل حركة النهضة في فترة سابقة.
بهذا التّنسيق المفضوح وهذا التوزيع للأدوار بين النداء والنهضة والهيئة العليا للانتخابات تتّضح الصورة أكثر. إنّهم يهدفون من خلال تدبيرهم هذا إلى ضمان إبقاء الأمور على ما هي عليه وإقصاء المواطنين من المشاركة في إدارة الشأن العام الذي يتعلّق بحياتهم اليومية وبالتالي إجهاض حلم الديمقراطية التشاركية وتأبيد منظومة الدكتاتورية المنمّقة بالتّمثيلية البرلمانية التي تمارس الوصاية على ناخبين سلبوا من مواطنتهم.
يضاف إلى كلّ هذه التدابير التّقنية والقانونية عسكرة الجهات عبر تعيين الولّاة والمعتمدين على قاعدة الولاءات وكذلك تطويع وتوجيه الرأي العام عن طريق عمليات “سبر الآراء” بواسطة مؤسسة “سيقما كنساي” لصاحبها الندائي حسن الزرقوني الذي يعمل خارج الإطار القانوني غير المتوفّر حاليا ووفق قانون الغاب الذي أنشأته المافيات الحاكمة وطبقا لمصالح ومزاج مشغلّيه.
الواهمون يتناظرون
هذا هو المناخ المثالي والملائم جدّا لجهابذتنا المتخرّجين من وكالة الاتصال الخارجي. إنه نفس المناخ الذي تعوّدا عليه، والذي من شأنه أن يحفّزهما على توظيف كل طاقتهما الإبداعية في سبيل تلميع الصورة البنفسجية لنداء تونس.
هذه العودة السّريعة لممارسة الطقوس القديمة لم تكن لتحدث لولا تكريس سياسة الإفلات من العقاب باسم المصالحة الوطنية. فبعد أن صمتوا طويلا وتواروا على الأنظار خلال السنوات الأولى للثورة، على غرار بسيّس الذي وعد التونسيّين بعدم الظهور الإعلامي مجدّدا، هبّوا هبّة واحدة وأصبحت أصواتهم تلعلع في المنابر الإعلامية التي أُعدّت لهم خصّيصا لينعتوا الثوار بكلّ صفاقة ووقاحة بالثورجيّين.
إذا بعد تحقيق القسط الأوّل من مشروع العودة، وذلك بفرض عدم المحاسبة القانونية لأبواق الدّعاية لنظام بن علي، ها أنّ “الندائيّين” يسعون بكل الوسائل إلى إتمام القسط الثاني عبر العفو عن ناهبي ثروة الشعب باسم “المصالحة الاقتصادية والمالية”، هذا المشروع الرئاسي الذي يهدف إلى تعزيز هذا التوجّه بالصّفح عمّا تبقّى من التجمّعيّين وبالتالي عودة المنظومة النوفمبرية بالكامل والإجهاز نهائيا على الثورة. الوهم بإمكانية هذه العودة تمَلّك البعض الآخر ممّن اصطفّوا بالأمس القريب في الطّابور الخامس للثورة وباتوا يردّدون الجمل الثورية لمحاولة طمس ماضيهم الملتبس وإيجاد عذريّة جديدة. لعلهم تأثّروا أيضا بالشهادة “القانونية” للمحامي الفذّ لبن علي والمنتمي حديثا إلى “نداء تونس” الذي أكّد أنّ موكّله “لم يهرب لأنّه ترك نظّاراته الشّمسية في تونس”.
بمجرّد أن تراءى لهم هذا السّراب حتى أصبحوا يعرضون خدماتهم على “النداء” ويتنافسون علّهم يفوزون بأدوار صلبه مثيلة بتلك التي يقوم بها بسيّس والعبيدي، وهذا الاختبار يمرّ طبعا وكما نعلم عبر كيل الشّتائم المجانيّة للجبهة الشعبية ولناطقها الرّسمي بالخصوص. الاختبار متواصل والعويل لا يتوقّف لحظة… وكذلك حركة الثورة الشّعبية التي لا يهدأ لها ساكن، فالتّصادم قادم لا محالة وسوف يكون بكلّ تأكيد لصالح هذه الثورة المتأجّجة والتي سوف تدعسهم جميعا إن آجلا أو عاجلا وتخضعهم إلى المحاسبة عبر منظومة عدالة انتقاليّة حقيقيّة حتّى لا يعودوا إلى صنيعهم ثانية…
فوزي القصيبي