انتهى اللّقاء الأخير بين وفد خبراء صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية يوم الاثنين 17 أفريل الجاري لمتابعة مدى تقدّم هذه الأخيرة في تطبيق “الإصلاحات الاقتصاديّة” المطلوبة منها مقابل إطلاق الدفعة الثانية من القرض إلى نوع من الرّضى والتّقدير الإيجابي لالتزام الحكومة بتعهّداتها وقدرتها على المواصلة في معالجة باقي الملفّات. وللإعلام فإنّ الحكومة استلمت قسطا أوّلا بما قيمته 663 مليون دينار في حين تعطّل صرف القسط الثاني لما اعتبره الصندوق تلكّؤا في تنفيذ الإجراءات المتعلّقة بالحوكمة ومقاومة الفساد ومشروع القانون الأساسي للميزانية… وستحصل الحكومة بموجب هذا الرّضى على 700 مليون دينار بعنوان القسط الثاني من صندوق النقد الدولي و500 مليون دولار من البنك العالمي و400 مليون أورو من الاتحاد الأوروبي.
وقد لعب المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشّغل دورا مساعدا في لقاء له مع وفد صندوق النقد الدولي لإطلاق سراح القسط المعطّل، إلى جانب دعوته إلى دعم الاستثمار في الجهات الداخلية للبلاد التونسية للمساعدة على إنجاح المسار الاقتصادي والاجتماعي بعد “نجاح الانتقال الديمقراطي”.
الحكومة مصرّة على القديم
وفد صندوق النقد الدولي لم يكن في الحقيقة راض تمام الرّضى على مستوى تقدّم الحكومة في إنجاز تعهّداتها. لكنه قدّر أنها مستعدّة للمضيّ قدما وبوتيرة أكبر في “الإصلاحات المطلوبة ” وأنها لا تملك حلولا أخرى من شأنها أن تتعارض مع سياسات المؤسسات المالية العالمية النهابة. وقد تأكّد هذا الأمر من خلال المخطط الخماسي 2016/ 2020 الذي صوّتت لفائدته الأغلبية البرلمانية والذي حافظ على نفس المنوال القديم ونفس الآليات والأهداف، إضافة إلى مواصلة التعويل على التداين الخارجي كخيار أساسي للتمويل. وهذا من شأنه إنتاج مزيد التّفقير والتّهميش واختلال التّوازن بين الفئات والجهات ومزيد الخضوع إلى الإملاءات وفقدان السّيادة الوطنيّة سواء ما تعلّق منها بالسّيادة على الثّروات الوطنيّة أو سلطة القرار السياسي.
قرار وفد صندوق النقد الدولي جاء انتصارا للخيارات اللاّشعبيّة واللاّوطنيّة للحكومة في محاولة منه لإنقاذ الائتلاف الحاكم ومساعدته على إدارة أزمته ومواجهة الاحتجاجات المتنامية في أغلب الجهات والتي ما انفكّت وتيرتها تتصاعد وباتت تُنذر بالخطر، خطر اندلاع ثورة جديدة يمكن أن تعصف بحكم البورجوازية أو دخول البلاد في فوضى عارمة لا يمكن التّكهّن بنهاياتها.
صندوق النقد الدولي ومن خلاله القوى الاستعمارية يُصرّ على إبقاء الثورة التونسية في مستوى تغيير شكل السلطة دون المساس بجوهرها الطبقي أي أن يتواصل الاستغلال والتّبعيّة وتتراجع الخدمات الأساسية من تربية وصحّة وبيئة وثقافة وغيرها ويقتصر التّشغيل على القطاع الخاص ما استطاع إلى ذلك سبيلا مع ضمان الحقّ في التعبير والاحتجاج والتّرشّح والانتخاب…
الاحتجاجات ستسّفه كلّ الحسابات
الأكيد أنّ الاحتجاجات العارمة التي تنشأ هنا وهناك وتتّسع رقعتها جغرافيّا وتزداد صلابة وجماهيرية تعبّر عن غبن حقيقي وعن إحساس بأنّ الثورة لم تحقّق أهدافها التي تتمثّل بكلّ بساطة في المطالب التي يرفعها اليوم المحتجّون في القيروان وتطاوين وبوحجلة وحاجب العيون وغيرها من مناطق البلاد ويختزلونها في التّنمية والتّشغيل. كما تعبّر في نفس الوقت عن فشل الخيارات الرأسمالية التّابعة التي تصرّ حكومات ما بعد 14 جانفي على انتهاجها رغم أنها فشلت تحت قيادة الحكم النوفمبري وأدّت إلى اندلاع ثورة الحرّيّة والكرامة.
هذا الإصرار هو خيار سياسي طبقي الهدف منه خدمة كبرى الشركات الرأسمالية ووكلائها المحلّيّين من كبار الأثرياء في البلاد على حساب الأغلبيّة التي تزداد اليوم فقرا وتهميشا والتي لن ترضى بغير تحقيق مطالبها المزمنة.
إنّ إطلاق الأقساط السبعة المتبقّية من القرض الجملي لصندوق النقد الدولي ستكون مشروطة بمزيد الإملاءات والإجراءات الموجعة من غلق لباب الانتدابات ودهورة للقدرة الشرائية والخدمات الأساسية وبيع للمؤسسات العمومية ولو على مراحل وتخفيض في قيمة الدينار المحلي بالقياس مع العملات الأجنبيّة وضرب للمؤسّسات الوطنيّة والصغرى التي لن تقدر على الصّمود أمام المنافسة الأجنبيّة.
هذا هو الطّريق الذي اختاره الائتلاف الرّجعي الحاكم وتُصرّ حكومة الالتفاف على الثورة على إنجاحه. وهو يتنزّل في إطار التّقسيم العالمي للعمل، حيث يختصّ الغرب الرأسمالي في التّصنيع والإنتاج والاستثمار وينحصر دور البلدان التّابعة في لعب دور السّوق التي تستوعب السّلع والخدمات الجاهزة وتوفّر اليد العاملة الرّخيصة.
الشّعب التّونسي الذي اكتوى بنار هذه الاختيارات سيقاوم بشراسة وسيُسقط حسابات العملاء والسّماسرة ومؤسّسات النّهب.
إنّ رضا صندوق النقد الدولي على تمشّي حكومة يوسف الشاهد يؤكّد أنها (الحكومة) في الطريق الخطأ لأنّ أكثر من تجربة في أكثر من بلد تؤكّد أنّ هذه المؤسّسة كلّما فرضت إملاءاتها على بلد “في طريق النمو” كلّما ساهمت في إفلاسه وضرب مقدّراته الاقتصادية ورهنه ماليّا وسياسيّا وشلّ قدرته على التّطوّر والنّهوض.
لقد علّمت ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي التونسيّات والتّونسيّين أنّ الحل يأتي عبر النّضال الشّعبي المدني السلمي وأنّ التغيير آت لا محالة، وهو ما جعلهم يواصلون المشوار بلا كلل تحدوهم رغبة جامحة في قلب الأوضاع لصالحهم. لكنّهم بحاجة إلى قيادة سياسيّة محنّكة تنتصر لآمالهم وتعبّر بالفعل عن مصالحهم وتنظّم صفوفهم وتجنّب نضالاتهم كلّ محاولات التّآمر والإجهاض من أجل اختصار الطّريق نحو تحقيق الأهداف بأقلّ التكاليف.
علي البعزاوي