أقدمت الشّرطة العسكريّة لسلطة الأمازون في دولة بارا الواقعة شمال البرازيل يوم 17 أفريل 1996 على الفتك بـ19 مزارع خلال هجوم ضدّ عدد كبير من أعضاء حركة “العمّال دون أرض” الذين أغلقوا الطّريق السيّارة للمطالبة بإصلاح زراعيّ. وقضى اثنان من المزارعين نحبهم بعد أيّام متأثّرين بجروحهما. كما أنّ عديد العمّال لحقتهم أضرار بدنيّة مهمّة بشكل أعاقهم عن مواصلة العمل بالقطاع الفلاحي. وقد أعلنت المنظّمة العالميّة للمزارعين «via campesina» التي كانت في ذلك الوقت تعقد ندوتها الدّوليّة الثانية بمدينة “تلاكس كالا” بالمكسيك يوم 17 أفريل من كلّ سنة يوما عالميّا للنضال الزراعي.
بعد أيّام تمرّ الذكرى 21 لهذه الحادثة الأليمة التي اهتزّ لها العالم بأسره والتي ما زالت آثارها حيّة خاصّة بين أهالي القتلى والمصابين لما عانوه من الغطرسة والتسلّط. واحتراما لهؤلاء الضحايا ولنضالاتهم الشرعيّة ينبغي أن نتحرّك كلّ من موقعه لإحياء هذه الذكرى الأليمة. يتحتّم أن يعرف العالم بأسره أنّ المزارعين والمزارعات وغيرهم من عمّال المناطق الرّيفيّة يتحرّكون دون هوادة من أجل الحصول على حقوقهم. إنّ المبادرة من أجل حقوق المزارعين التي أطلقتها «via campesina» منذ 17 عاما بلغت اليوم مرحلة متقدّمة للاعتراف بها في منظمة الأمم المتحدة كإعلان عالميّ لحقوق المزارعين وغيرهم من الأشخاص العاملين في المناطق الرّيفيّة. هذا الإعلان إن تمّت المصادقة عليه سوف يشكّل سندا قانونيا دوليا لحماية حقوق المزارعين وغيرهم من العاملين في الأرياف وسوف يجلب الاهتمام حول المخاطر والميز العنصري الذي يتعرّضون إليه.
لقد أصبح هذا الإعلان في القرن 21 ضرورة ملحّة وحتميّة، فالمزارعون الذين ينتجون كتلة الأغذية المستهلكة عالميّا مازالوا يعانون التجريم والميز والنقل والتتبّعات رغم توفّر الأدوات القانونيّة العالميّة التي تعترف وتحمي حقوقهم.
وتتعرّض الحقوق الأساسيّة للمزارعين للتهميش أثناء فترات الأزمات الاقتصاديّة والبيئيّة، ذلك أنّ الانتزاع العقاري والطرد القسري والميز وانعدام التنمية في الأرياف والدّخل المحدود وغياب التّمكّن من أدوات الإنتاج وغياب التّغطية الاجتماعيّة وتجريم الحراك الذي يدافع عن حقوق المزارعين والعاملين بالمجال الريفي كلّها جرائم انتهاك للقوانين العالميّة للرجال والنّساء.
في إفريقيا مثلا أكثر من 70 % من الإنتاج الفلاحي والعلاج البشري تقوم بها النساء ورغم ذلك تظلّ حقوقهم في الملكيّة والحصول على القروض والنّفاذ إلى المعلومة وسلطة القرار السياسي غير معترف بها أصلا في بعض الأحيان. وفي البرازيل رغم السنوات العديدة من نضال المزارعين من أجل إصلاح زراعيّ شامل لم يتمّ إعادة توزيع الأراضي بشكل عادل. وفي أوروبا ألحقت السياسة الفلاحيّة المشتركة ورفع القيود في قطاع الألبان أضرارا بمئات الآلاف من المزارعين فأجبروا على بيع أراضيهم ونزلت مساهمة الشباب في الفلاحة إلى أدنى مستوى لها. وفي آسيا، كما في باقي دول العالم، قضت اتفاقيات التبادل الحرّ والاتفاقيات الثّنائيّة على العديد من الأسواق المحلّية وما تزال تشكّل خطرا على الفلاحة المحلّية والتقليديّة.
أمّا تونس فلا يختلف الأمر فيها عن سائر دول العالم. فالفلاّح مازال يرزح تحت نير الظلم والغطرسة والحقرة الموروثة منذ عقود – الفلاحون في تونس يعانون الذلّ والتّهميش رغم أنّهم يكدحون ليلا نهارا لتأمين الغذاء. فأبناؤهم ورغم قساوة الظروف يعانون الحيف الاجتماعي وغالبا ما يتعرّضون إلى الفرز والحرمان من الوظائف الإداريّة لأنّ آباءهم ليست لهم صلة بوسطاء التوظيف ويتعرّضون كذلك إلى أبشع مظاهر الاحتيال عندما يحاولون قضاء أيّ مصلحة بسيطة. وقد ازداد الوضع تعقيدا بأنّ سُلّطت عليهم السلطة منذ 1952 منظّمة الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري التي مارست عليهم أبشع طرق الاحتيال من أجل إخضاعهم للسلطة وإذلالهم واستعبادهم. فالفلاّح لا يحصل على حقّه في العلف المدعوم مثلا خاصّة من مادّة “السّدّاري” إلّا بعد أن يتعرّض إلى ابتزاز لا مثيل له، ذلك أنّ ثمن 100 كغ من هذه المادة المدعومة من المال العام يساوي 12,500د في الأصل حسب القانون (ثمن البيع للفلاّح) لكنّه يتكلّف على الفلاح عادة ثمنا يفوق 25 دينارا، ذلك أنّ العصابات النهضاوية شأنها شأن سلفها من الدّساترة ترفع التكلفة باستعمال شتّى الخزعبلات الخارقة للقانون على مرأى ومسمع من السلطات الإدارية والقضائيّة. وهذه الأيّام أمعنت هذه العصابات في نهب الفلاحين حيث أصبحت تشترط على الرّاغبين في الحصول على “السدّاري” المدعوم بطاقة يبيعونها بمبلغ 30 دينارا.
رغم هذه الممارسات في حقّ الفلاحين وحقّ الوطن ما تزال هذه المنظّمة المتحيّلة “الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري” تحظى بدعم معنوي كبير من “الاتحاد العام التونسي للشغل” وقطاعات واسعة من النقابيّين رغم انتمائها الواضح لمعبد الكهنوت الإخواني. فاتحاد الشغل يتمسّك بهذه المنظّمة دون غيرها رغم علمه بجميع ممارساتها الفاسدة حتى يتجنّب الاعتراف بالتعدّدية النقابيّة. وهذا جرم في حقّ البلاد والفلاحين خاصّة وأنّ العصابات الإخوانيّة المتمترسة داخل أجهزة اتّحاد الفلاحين تعمد أيضا إلى مقايضة الفلاّحين بالحصول على الأعلاف المدعومة مقابل الولاء السياسي والانتخابي.
وبمناسبة ذكرى مجزرة 17 أفريل 1996 بالبرازيل، أتوجّه بنداء إلى كلّ الديمقراطيين للتصدّي للمخاطر الكبرى لهذه المنظمة التي تنهب الفئات المهمّشة وتُمعن في إهانتها وذلّها بوسائل وطرق أبشع من تلك التي كانت معتمدة في نظام الفاشي بن علي.
الاحتفال بهذه الذكرى يجب أن لا يحجب عنّا ذكرى وطنيّة مجيدة هي معركة تالة والقصرين في 26 و27 أفريل 1906، حيث حدثت أولى وأعنف المواجهات بين الفلاّحين التّونسيّين والسّلطات الاستعماريّة إثر تعمّد السّلطة الفرنسيّة المدجّجة بقوّة السّلاح انتزاع حوالي 10 آلاف هكتار من أحسن الأراضي الخصبة في المنطقة وتمكين المعمّرين منها. وكان ردّ الفلاحين العزّل عنيفا خاصّة أنّ ظروفهم البائسة ازدادت سوءا بعد شتاء قارس وصل فيه ارتفاع مستوى الثلوج إلى 2,5 متر ممّا أدّى إلى نفوق آلاف الأغنام والماعز.
هاجم الفلاّحون المنتفضون ضيعة أحد المعمّرين وقتل شقيق صاحب الضيعة وجرح خادمه كما قتلت أمّ المعمّر. ثمّ هوجمت ضيعة أخرى قُتل فيها أحد الإيطاليين. وفي الغد تجدّدت المواجهات إثر هجوم الفلاّحين المتظاهرين على مركز المراقبة المدنيّة لتالة حيث تمّت مواجهتهم بكلّ عنف وسقط منهم 14 متظاهرا وتمّ أسر عدد منهم وتمّت محاكمتهم في سوسة من 21 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 1906.
ينبغي على الفلاّحين أن يعوا أنّه إضافة إلى دورهم في تأمين الغذاء وصراعهم ضدّ الانحباس الحراري وحماية التّنوّع البيئي، عليهم أن يناضلوا من أجل إصلاح زراعي حقيقي وحماية أفضل لأراضيهم ورصّ صفوفهم وشحذ عزائمهم. هذه النّضالات سوف تمكّنهم من القوّة اللاّزمة والكافية لحماية أراضيهم ضدّ مصالح المؤسّسات الخاصّة وضدّ الاحتقار وجميع أشكال العنف الذي يتعرّضون إليه.
عمر السّلامي
رئيس النقابة الجهوية للفلاحين بالقيروان