أحمد المولهي
يمرّ العالم اليوم بمنعطف خطير نتيجة تعاظم إنتاج الأسلحة ونموّ تجارتها المربحة وتوسّع دائرة النّزاعات المسلّحة في مناطق عدّة من العالم، حيث تسعى القوى الامبرياليّة، بمعيّة وكلائها في الدّاخل، إلى إشعال فتيل الحرب فيها عبر تفجير النّزاعات الإقليميّة والطّائفيّة والسّعي إلى عسكرتها. لقد ساد منطق السّلاح في إيران والعراق ثمّ في العراق والسّودان ومنه إلى سوريا وليبيا فاليمن وغيره من المناطق الأخرى عبر العالم التي أصبحت هدفا لعربدة زعماء الرّأسماليّة العالميّة.
ارتفاع الإنفاق العالمي على التّسلّح
تشير آخر الإحصائيّات المختصّة في هذا المجال إلى أنّ الإنفاق العالمي في التّسلّح آخذ في الارتفاع، حيث بلغ سنة 2015 رقما مخيفا يقارب 1.7 تريليون دولار وارتفع معه حجم الواردات من الأسلحة لدى أكثر الدول استيرادا للسّلاح مثل الهند التي تستورد 14 في المائة من أسلحة العالم، والعربية السعودية التي ازداد معدّل استيرادها للسّلاح بحوالي 275 في المائة بين 2011-2015، بنسبة 7 في المائة، إلى جانب الإمارات وباكستان وتركيا وغيرهم من بلدان المناولة في منطقة الشرق الأوسط المشتعلة منذ سنين بسبب الصراع القائم للسيطرة على موارد الطاقة وفي جلّ البلدان الافريقيّة.
لقد أصبحت عمليّات اختبار آخر الأسلحة والمبتكرات في الميدان العسكري من المشاهد اليوميّة علاوة على إجراء التّجارب النوويّة وإطلاق الصواريخ البالستية من قبل كوريا الشمالية، وأمّ القنابل التي ألقت بها القوات الأمريكية في جبال أفغانستان، إلى جانب انتشار الأساطيل الحربية الأمريكية والروسية والفرنسية والصينية والايرانية عبر البحار والمحيطات وإقامة القواعد العسكرية في النقاط الاستراتيجية من الكرة الأرضية والتّحصينات الدّفاعية في أوروبا الشرقية وفي تركيا وبعض دول الخليج العربي. ورافق كلّ ذلك التّرفيع في ميزانيّات الدّفاع من قبل جلّ الأنظمة، على حساب التّنمية وتوفير أساسيّات شعوبها.
وضمن سياق التّسابق المحموم إلى التّسلّح هذا، سارعت جلّ الأنظمة في الدّول النامية إلى إبرام العديد من عقود شراء الأسلحة الحديثة والمتطوّرة وتجديد أساطيلها مقابل مبالغ خياليّة، في ظرف تراجعت فيه أسعار البترول والغاز وتدهورت فيه قيمة عملات هذه البلدان (دول الخليج خاصة وعدة دول إفريقية وآسيوية…) ناهيك وأنّ العربية السعودية تكفّلت بخلاص فاتورة إعادة تسليح الجيش اللبناني مراهنة على دعم نفوذها ونفوذ من منحوها الوكالة على لبنان ودفعوا بها في حرب ظالمة في اليمن، في حين أنّ العديد من القوى الإقليمية لم تتوان عن تسليح القوى الإرهابية بالمنطقة لتدمير العراق وسوريا ثم ليبيا إلى أن يأتي الدّور على بلد آخر. هذا وقد ساهمت التّدخّلات العسكريّة المباشرة للقوى المتصارعة في المنطقة في حسم الصّراعات الدّاخلية لصالح الأطراف التّابعة لهذا القطب أو ذاك في جلّ بلدان الربيع العربي. إنّ الضربات التي وجّهتها البوارج الحربيّة الأمريكية الرّاسية شرق البحر الأبيض المتوسّط ضدّ القاعدة العسكرية السورية بالشّعيرات قرب حمص، تندرج في إطار هذه الخطّة التي تنتهك مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
عناوين مختلفة لتبرير العدوان والحرب
إنّ مثل تلك الاستعدادات الحثيثة والانتشار المكثّف للتّرسانة العسكريّة عبر القارّات والمحيطات لا يمكن أن يكون إلّا مقدّمة لعدوان وشيك على هذا البلد أو ذاك وعلى سيادة هذا الشّعب أو ذاك تحت عناوين مختلفة: أسلحة كيماوية، إرهاب، خطر على الأمن القومي وغيرها من العناوين التي تضع تحتها الآلة الإعلاميّة النّظامية نزعات التوسّع والهيمنة لدى القوى الرأسمالية العالمية لتبرير سياساتها في بعض مناطق العالم (العراق، سوريا، ليبيا…). فالأحداث الأخيرة على الساحة الدولية تعطي إشارة واضحة على أنّ هذا التّوجّه أصبح خيار المرحلة وأصبح يشكّل أولوية مطلقة للسّاسة الجدد في هذه الدول، فأمريكا أصبحت لا تتوانى في توعّد من تريد ومهاجمة من تريد أمام أعين الجميع، والحلف الأطلسي أصبح لا يتأخّر عن مباركة وتزكية هذه السياسة تحت نفس عنوان المصلحة القومية، الأمنية منها خصوصا.
إنّ سياسة التّسلّح المتّبعة من قبل هذه القوى أدّت إلى تدخّلات عسكريّة تسارعت وتيرتها في العقود الأخيرة خاصّة مع اكتساح الأجنحة اليمينية في الأحزاب التقليدية السلطة السياسية والتي احتكرت حكم أوروبا وأمريكا على وجه الخصوص. وقد أنفقت الكثير من الموارد وتسبّبت في اندلاع العديد من النزاعات الإقليميّة المسلّحة التي أصبحت تشكّل خطرا على السّلم المدني وعلى حياة الشعوب في جلّ أرجاء المعمورة. بهذا وبغيره دخل العالم عصر التّوعّد والتّوعّد المضاد، الولايات المتحدة / إيران، الولايات المتحدة / كوريا الشمالية، كوريا الشمالية/ كوريا الجنوبية، الهند / باكستان، التحالف العربي بقيادة السعودية / اليمن… دون أن ننسى الكيان الصهيوني الذي أطلق العنان – في ظلّ وفرة السّلاح الأمريكي والغربي وهيمنة منطق العربدة لدى حكّامه ولدى حُماته من داخل أمريكا وأوروبا – لسياسة الاستيطان وضمّ المزيد من الأراضي الفلسطينيّة في ظلّ التّواطؤ العربي الرّسمي وتشتّت الصفّ الفلسطيني.
إنّ ارتفاع الإنفاق العالمي في التّسلح يقترن بالعودة القوية إلى سياسة المحاور الهادفة إلى إعادة تقسيم العالم من أجل استعادة مناطق النفوذ القديمة أو المحافظة على ما تبقّى منها على حساب المصالح الوطنية للدول الضعيفة وحرمة ترابها ووحدة شعوبها. كلّ هذه المؤشّرات تشير إلى انعطاف خطير في سياسات الأنظمة المهيمنة على العالم وتؤكّد أنّ الخيار العسكري أصبح يُحظى بالأولوية المطلقة في إدارة الشأن الدولي على حساب مبادئ التعاون الدولي والحلول السلمية. وبات واضحا في هذا السّياق أنّ الهيمنة الرأسماليّة أصبحت لا تكتفي بالتّعويل على النفوذ السياسي والمالي والإعلامي، بل أصبحت تميل إلى المواجهة المباشرة والرّدود الفرديّة و”العربدة” والى استباحة سيادة الشّعوب الضّعيفة.
ضرورة بعث جبهة عالميّة للتّصدّي للسّياسات العدوانيّة
أمام هيمنة النهج العدواني المتأصل في سياسات القوى الرأسمالية العالمية، لا مفرّ من أن تأخذ القوى التقدمية، المحبة للسلام والمناهضة للتسلّح، في الوطن العربي وإفريقيا وفي العالم، على عاتقها مهمّة التصدي لهذا الخطر عبر تنظيم صفوفها في جبهة عالمية تتصدّى للسّياسات العدوانيّة وترسم الخطط التنموية البديلة وتصوغ المبادرات القادرة على توحيد نضالاتها.
وأمام العودة القوية إلى السباق نحو التّسلح يحقّ لنا جميعا أن نتساءل إلى أين يسير العالم وإلى متى ستستمر العربدة؟
لا أحد في الحقيقة يستطيع التنبّؤ بنهاية هذه العربدة والسياسات العدوانية، التي جلبت معها كلّ عاهات الماضي الأليم من عنصرية واستبداد واستعمار. لكن القوى الاجتماعية والمدنية الديمقراطية والتقدمية تظل في طليعة نضالات الشعوب من أجل السيادة الوطنية والتنمية والتقدم وضدّ عسكرة العالم وإغراقه بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة.