زحف المئات من شباب مدينة تطاوين وأحوازها آخر الأسبوع الفارط على منطقة الكامور التي تعتبر بوّابة الصحراء التونسيّة والمعبر الاستراتيجي لآليات وتجهيزات الشركات النفطية العاملة في حقول البرمة وما جاورها (طرطار، بير زار، العريش…)
كما يمرّ منها الأنبوب الرّئيسي لنقل المحروقات. لكن هذا التّصعيد الأخير ليس سوى حلقة في سلسلة الاحتجاجات التي عرفتها تطاوين منذ سنة 2011
الكامور: 2017 ليست البداية
على خلاف الاعتقاد الشّائع بأنّ الاحتجاجات في تطاوين لم تنطلق سوى سنة 2014، وأنّ الجهة كانت في سبات عميق إبّان حكم الترويكا، فإنّ علاقة الشّباب المعطّل عن العمل والاتحاد الجهوي للشغل بتطاوين بالشّركات البتروليّة كانت متوتّرة منذ سنة 2011:
* ماي 2011: توجّه قرابة سبعون شابّا نحو الكامور بنيّة غلق أنبوب النّفط وتولّى الجيش قمع التحرّك بطريقة أصابت الأهالي بالذّعر والصّدمة.
* 24 أفريل 2012: احتجاجات شعبيّة وإضراب عام على خلفيّة رضوخ حكومة حمّادي الجبالي لضغوطات وشروط شركة بوشماوي وشريكها النّمساوي OMV لتحويل اتّجاه 350 كم من الأنابيب النّاقلة للغاز نحو قابس بعد أن كان مبرمجا أن تمرّ عبر تطاوين في اتّجاه جرجيس. وتبلغ تكلفة هذا المشروع “غاز الجنوب” حوالي 2000 مليار بطاقة تشغيليّة تقدّر بـ2700 وظيفة قارّة وغير قارّة.
* 22 سبتمبر 2012: إضراب عام ثاني احتجاجا على ممارسات شركة بوشماوي وOMV وتنصّلهما من أيّة مسؤوليّة اجتماعيّة وتنمويّة بالجهة، وقد حاولت أحزاب الترويكا التّشويش على هذه التحرّكات بتجييش الرّأي العام بالجهة تحت شعار العادة “الإسلام في خطر” و”لا لعودة التجمّعيين”. هذا التّجييش الذي أودى بحياة لطفي نقض يوم 18 أكتوبر 2012.
* 10 مارس 2014: نظّم شباب تطاوين المعطّل عن العمل “اعتصام المصير” احتجاجا على تواصل تنصّل الشركات البتروليّة من مسؤوليّتها الاجتماعيّة والتنمويّة بالجهة.
إنّ العمود الفقري لهذه التحرّكات هو الشباب المعطّل عن العمل، تآزره النقابات وبعض الناشطين السياسيّين والحقوقيّين. ولكنّهم يجدون الدّعم أيضا من بعض صغار المستثمرين ورجال الأعمال المتضرّرين من اقتسام غنيمة عقود الإعاشة والمناولة في مناطق استخراج النّفط في تطاوين.
وقد كشّرت الشركات البتروليّة عن أنيابها، إذ قامت شركة بوشماوي بطرد كافّة أعضاء النقابة الأساسيّة المؤسَّسةُ حديثا ومعهم عشرون عاملا أصيلي تطاوين رغم أنّ العمّال أبناء الجهة لا يتجاوز عددهم 52 عاملا من جملة 754 عاملا، وهو ما أذكى النعرات الجهويّة صلب الاحتجاجات الشعبيّة بتطاوين.
عودة إلى الكامور:
انطلقت الأحداث الأخيرة منذ الأيّام الأولى لشهر مارس الجاري بقصر أولاد دبّاب عبر إقدام مجموعة من شباب المنطقة على قطع الطّريق نحو رمادة قبل أن تنتشر خيام الاعتصامات انتشار النّار في الهشيم وأصبح لكلّ حيّ بتطاوين خيمته ونقطة اعتصامه لقطع الطرقات. ووصل عدد الخيام إلى خمسين خيمة، في ظلّ عجز تامّ من السّلطة الجهويّة التي لم تجد بدًّا من الاستنجاد بالسلطة المركزيّة، التي لا تقلّ عنها عجزا، إذ اكتفت الحكومة بإرسال الناطق الرّسمي ووزير الشؤون الاجتماعيّة، اللّذين فشِلا فشَلاً ذريعا في تقمّص دور رجال المطافئ الذي كلّفهم به الائتلاف الرّجعي الحاكم الذي اضطرّ في مرحلة لاحقة إلى إرسال أحد ممثّليه في الحكم، وزير التشغيل والتكوين المهني عماد الحمامي، الذي بشّر المعتصمين بأنّ “تونس ستكون مضطرّة خلال السنوات القليلة القادمة إلى استيراد اليد العاملة” وطلب هدنة من المعتصمين (وكأنّ الحكومة في حالة حرب مع تطاوين) إلى حين زيارة رئيس الحكومة. هدأت الأوضاع نسبيّا في انتظار زيارة يوسف الشاهد، لكنّ الرّأي العام الجهوي بتطاوين فوجئ بتوجّهه إلى صفاقس، واعتبر المحتجّون ذلك إهانة للجهة، فصعّدوا من تحرّكاتهم الاحتجاجيّة بالتوجّه في جموع غفيرة إلى الكامور وقطع الطّريق أمام كافّة شاحنات وتجهيزات الشركات البتروليّة.
آفاق التّحرّكات الاحتجاجيّة:
اليأس من التّنظّم السياسي والنّقابي هو أيضا موقف سياسي:
من الواضح جدّا أنّ حكومة الائتلاف اليميني الرّجعي الحاكم تراهن على عامل الزّمن لإطفاء لهيب الاحتجاجات الشعبيّة في ظلّ عجز أحزاب الائتلاف، وبدرجة رئيسيّة حزب حركة النهضة في تحريك قواعدها واستثمار خزّانها الانتخابي في تطاوين لتحويل وجهة التحرّكات إلى نفق مفاوضات عقيمة وجلسات المكاتب المغلقة، ولكن أيضا في ظلّ نفور الشباب المعتصم والمحتجّ من كافّة أشكال التّنظّم الحزبي والنقابي، ومن هنا نشأت الضبابيّة في تعامل عدّة أطراف مع تحرّكات أبناء تطاوين. فما إن انطلقت أولى الصّرخات الاحتجاجيّة حتّى انطلقت معها الصرخة البورجوازيّة التاريخيّة “الوطن في خطر”، وتمّ استدعاء الخطر “الدّاعشي” حينا وخطر انهيار الدّولة حينا آخر، دون أن يكلّف أصحاب هذه الصرخة أنفسهم عناء الوقوف لحظة لتذكُّر من مزّق رايات “داعش” الإرهابي في بن قردان؟ أليس هو نفسه الشباب المعطّل عن العمل وأبناء الشعب المحتجّين على التّهميش وسوء توزيع الثروة الوطنيّة، أو التفكير لحظة واحدة حول مفهوم الدّولة ذاتها ونمط الإنتاج وتوزيع الثروة الذي تدافع عنه؟ هل يدافع النّظام القائم عن تطاوين وغيرها من المناطق الحدوديّة المستباحة من شبكات التهريب وتجنيد الشباب إرسالهم إلى المحارق؟ لماذا تصمت الدّولة أمام مافيات المال والدّم وتدفن ملفّاتها لتلوّح بالعصا الغليظة وبالغاز المسيل للدّموع أمام الشباب المعطّل عن العمل وأبناء الشعب المفقّر؟
حين يتوصّل الشباب المعطّل عن العمل والعمّال المطرودون والفلاّحون ومربّو الماشية إلى فكّ طلاسم هذه الشبكات المافيوزيّة، وحين تتحرّر هذه التحرّكات من طابعها الجهوي الضيّق الذي يمكن أن يتفاقم في أيّة لحظة ليصبح طابعا عشائريّا وقبليّا، حينها فقط ستنفتح الحركة الاحتجاجيّة على الألق الذي دشّنه الشعب التونسي يوم 17 ديسمبر 2010.
والخلاصة هي أنّ تطاوين تحقّق من خلال نضالاتها تراكمها الذّاتي رغم حالة الإحباط من السياسة ومن التّنظّم الذي تمكّنت القوى الرّجعيّة من زرعها في أوساط فئات واسعة من الشباب لتواصِل مصادرتها لطموحاتهم ومطالبهم.
حبيب الزمّوري