علي البعزاوي
شرع رئيس الحكومة يوسف الشاهد في القيام بسلسلة من الزيارات إلى بعض الولايات في محاولة منه لاستباق الاحتجاجات والحيلولة دون وقوعها، على غرار الزيارة التي قام بها إلى مدينة صفاقس، أين أعطى إشارة الانطلاق لبناء مستشفى جامعي وبرمجة الطريق السيارة صفاقس بوزيد (200 كلم) والشروع في توسيع وتجديد شبكات التطهير في عديد معتمديات الجهة، إلى جانب الأمر بتفكيك الوحدات الملوّثة بمصنع السياب وتهذيب 20 حيّ شعبي ومنح 600 قرض صغير لباعثي مشاريع من قطاعات مختلفة… أو لإطفاء الحرائق في الجهات التي اندلعت فيها بعد مثل الكاف والقيروان وتطاوين وغيرها.
كيف نقرأ هذه الزيارات؟
الواضح أنّ رئيس الحكومة شرع في هذه الزيارات تحت ضغط الاحتجاجات والشعور بالخطر الجدّي الذي أصبح يهدّد سلطة الائتلاف الرجعي الحاكم. وقد مرّ إلى المخطّط “ب” بعد أن فشلت الوفود الحكومية المصغّرة التي انطلقت في سلسلة من الزيارات لبؤر الاحتجاج (بن قردان – الكاف – الحاجب – نصر الله – تطاوين…) واتّخذت جملة من القرارات التي لم تدخل حيّز التّنفيذ أو رفضت من الأهالي لعدم جدّيّتها ممّا اضطرّ رئيس الحكومة إلى الخروج بنفسه واستعمال صلاحيّاته لاتّخاذ القرارات المناسبة القادرة حسب تقديره على احتواء الاحتجاجات، معتمدا خطاب “المصارحة” في محاولة منه لإضفاء بعض المشروعية على ما يقدّمه من حلول لا ترقى لانتظارات المحتجّين.
هذه الزيارات تحمل دون شك دلالات. فهي تؤشّر على فشل الحكومة في الاستجابة إلى مطالب الجهات والقطاعات، حيث قدّمت أحزاب الحكم خلال الحملات الانتخابيّة ترسانة من الوعود. لكنّها بقيت مجرّد حبر على ورق. كما تؤكّد أنّ هذه الحكومة مثل سابقاتها تفتقد إلى البرامج والخطط الجدية التي تنسجم مع أهداف ثورة الحرية والكرامة وتكون قادرة على معالجة الأزمة الشاملة التي باتت تنخر البلاد. لذا تقتصر مهمّاتها الأساسيّة على تصريف الأعمال وتهدئة بؤر الاحتجاج إلى حين مرور العاصفة.
هل الحكومة قادرة على احتواء الاحتجاجات؟
لقد وضع يوسف الشاهد نفسه في زاوية مغلقة لأنه مطالب باتّخاذ قرارات وإجراءات مماثلة أو قريبة من تلك التي اتّخذها في جهة صفاقس. فأهالي الكاف وتطاوين والقيروان والقصرين وغيرها من الجهات الساخنة لن ترضى بأقلّ ممّا تحقّق ولو على مستوى الوعود لعاصمة الجنوب. كما أنّ الجهات الأخرى التي لم تشهد بعد احتجاجات ستدخل على الخط لنيل نصيبها من المطالب بعد تأكّدها من غياب مشروع وطني شامل لكلّ الجهات وقناعتها بأنّ الحلول لن تأتي بغير النضال الشعبي. فالسلطة الحقيقية اليوم أصبحت للميدان وليس لأحزاب الحكم الفائزة في الانتخابات والتي باتت على هامش الأحداث أو مسايرة ومتذيّلة للحركة الاحتجاجيّة.
وستجد حكومة الشاهد نفسها في أتون معركة غير متكافئة بين جهات تطالب بحقّها في التنمية والحياة الكريمة، وهي أهداف مشروعة ناضلت من أجلها في الثورة وقدّمت في سبيلها الشهداء والجرحى، وبين حكم جديد محافظ ومتمسّك بالقديم المهترئ وغير قادر بالتالي على الاستجابة إلى استحقاقات الثورة. ففاقد الشيء لا يعطيه.
زيارات الشاهد للجهات ستتواصل وبوتيرة سريعة والقرارات ستتّخذ هنا وهناك حسب أهميّة كلّ جهة وحسب موازين القوى في الميدان، لكنها ستبقى في مستوى الوعود ولن يتحقق منها إلاّ النزر القليل بالنّظر إلى شحّ الإمكانيات المالية وغياب الاستثمارات الداخلية والخارجية وضعف الروح العملية للحكومة خاصة وأنّ آلاف المشاريع معطّلة منذ 2011 لأسباب مختلفة، عقارية وإداريّة واجرائيّة وماليّة وغيرها، ولم تقدر الحكومات المتعاقبة على تفعيلها بالسّرعة المطلوبة.
زيارات الشاهد هي مجرد فولكلور وبروباقندا إعلامية، الهدف منها احتواء الاحتجاجات المتصاعدة. لكنّها لن تشلّ عزيمة التونسيّات والتونسيّين المصمّمين أكثر من أيّ وقت مضى على تحقيق مطالبهم رغم تطبيل وتهليل إعلام التّعليمات.
المشروع الوطني الكبير هو الحل
الجهات ليست بحاجة إلى زيارات الوفود الحكومية ولا إلى زيارات رئيس الحكومة أو رئيس الدولة لأنّ هذه الزيارات لا معنى لها إذا لم تُشفع بحلول جذرية تمرّ بسرعة إلى التطبيق الفعلي حتى تعطي أملا للتونسيات والتونسيين وتوثق روابط الثقة مع مؤسّسات الدولة ومسؤوليها.
الجهات ملّت الوعود والحلول الترقيعيّة وهي بحاجة إلى مخططات تنمية تنبثق عنها مشاريع كبرى في القطاعات الاستراتيجية كالفلاحة والصناعة والبنية التحتية تساهم في مراكمة الثروة وفتح آفاق التشغيل أمام طالبيه، مشاريع كبرى تتعهّد بها الدولة خاصة في هذه المرحلة الاستثنائيّة التي يمرّ بها اقتصاد البلاد، مشاريع تراعي خصوصيات الجهات وإمكانيّاتها وحاجياتها. إنّ نجاح الدولة باعتبارها قاطرة التنمية في هكذا مهمّة من شأنه زرع الأمل وإعادة الثقة من جهة وتشجيع المستثمرين الخواص على المبادرة والانخراط في النشاط، من جهة أخرى.
إنّ الائتلاف الحاكم، المرتبط بألف خيط وخيط بمؤسّسات النّهب الاستعماري والمرتهن لإملاءاتها اللاّشعبيّة واللاّوطنيّة والذي فشل فشلا ذريعا في مقاومة الفساد، لا يمكن أن يكون حاملا لمشروع وطني كبير قادر على تغيير أوضاع التونسيّات والتونسيّين تغييرا جذريّا، فهو جزء من الأزمة إن لم يكن سببها الرئيسي وهو غير قادر على توفير الحلول… إنّ رحيله بات أحد الشّروط الأساسيّة للتّعافي والمسار الثّوري مازال مفتوحا على كلّ الاحتمالات وتحقيق أهداف الثورة ليس مستحيلا إذا توفّرت الإرادة السّياسيّة وتوحّدت القوى التّقدّميّة السياسيّة والمدنيّة والشعبيّة وتحمّلت مسؤولياتها في هذه المرحلة المفصليّة من الثّورة التّونسيّة.